لماذا تغيرت الأحوال وتبدلت الأوضاع؟ هذا هو آخر ما أتحدث عنه في هذا الموضوع، وهو ما يتعلق بالواقع المعاصر، أو القرآن وواقعنا المعاصر.
لماذا تغيرت الأحوال وتبدلت الأوضاع؟ هذا هو آخر ما أتحدث عنه في هذا الموضوع، وهو ما يتعلق بالواقع المعاصر، أو القرآن وواقعنا المعاصر. ولاشك أنه حديث جدير بأن يفرد مستقلاً، ولكني أوجز فيه المهمات، وأذكر فيه من الأمثلة ما يغني عن غيره، وأقسم الحديث فيه بالنسبة لعموم المسلمين وبالنسبة لأوضاع الحكم والدول. فأول ما يتعلق بالمسلمين نجد أن الانعكاس الأول والأكبر كان عندما نُحي القرآن من منصة الحكم، وأُقصي تشريع الله عز وجل من الهيمنة على حياة الناس، وما زال ذلك التشريع يُطارد ويُطارد ويُختزل حتى ما بقي إلا في أضيق دائرة من الدوائر التي يسمونها الأحوال الشخصية، والأحوال الشخصية نفسها تدخلوا فيها، وشرعوا من عند أنفسهم مالم يأذن به الله عز وجل، فانعكس ذلك على المجتمعات الإسلامية؛ لأنها لم تر حكم الله، ولم تر شرع الله عز وجل مطبقاً. ولكن هناك معالم ثلاثة رُكزت في نفوس الناس، وصُبت عليهم صباً، ووجهت إليهم توجيهاً، وكان لها آثار سلبية كبرى
دور أعداء الإسلام في إبعاد القرآن عن واقع المسلمين
أولها: ما يتعلق بالمفاهيم أو الغزو الفكري، فأملي على المسلمين أن هذا القرآن للبركة، وأن هذا القرآن إنما هو ليطرد الشياطين، وليس له بالحياة علاقة، فاذهب واعمل واكسب وعاشر الناس وخالط من تحب وافعل ما تشاء، وهذا القرآن بعد ذلك خذه للبركة لتتصور أنه سيغفر لك ما مضى، وأنك عندما تضعه في جيبك أو تعلقه في سيارتك أو تضعه في صحن بيتك أو في صدر بيتك فهذا كافٍ ومغنٍ. وجعلوا فهم القرآن أنه هو الذي يجلب على الحياة فهماً غريباً متشدداً متطرفاً بعيداً عن مراعاة الواقع، فإذا قال القائل: نريد أن نحكم الحياة بشرع الله وبكتاب الله قالوا: لا يمكن هذا؛ لأن هذا لا يتناسب مع الواقع، ولا يمكن أن نطبق هذه الآيات التي نزلت قبل ألف وأربعمائة عام على واقعنا اليوم! هذا ما يتعلق بالمفاهيم، وقد تسلطت هذه المفاهيم على الناس كثيراً، ونرى صورها في واقع الناس، فكثير من الناس اليوم ليس لهم صلة بالقرآن إلا البركة، حتى إذا جاء حافظ القرآن قالوا: بركة. وما عندهم إلا كلمة (البركة)، فإذا وضع المصحف قبله أو وضعه على رأسه قال: هو للبركة. ولا يفهم إلا هذا المعنى، فمسخ الفهم والارتباط الكامل الشامل بكتاب الله من هذا الجانب.
أهمية اللغة العربية في فهم القرآن الكريم
الجانب الثاني -وهو خطير جداً- جانب اللغة. جانب اللغة العربية التي أُضعفت، والتي غزتها العامية بكل لهجاتها، حتى أصبح العربي في بلاد الشام لا يعرف العربي الناطق بالعربية في بلاد العراق، والذي في العراق والشام لا يفهم من يتكلمون في مصر، حتى صار العرب يحتاجون إلى مترجم بينهم. ومن لطائف ذلك أن الشيخ الطنطاوي رحمه الله تعالى ذكر قصة عراقي جاء إلى مطعم فيه مصري، وإلى جواره شاب، ودار هناك حوار، وكل واحد لا يفهم الآخر، فقال الأول كلمة طيبة هي في لهجة الثاني سيئة، وإذا به يغضب، وإذا بهما يتشاحنان، وحصل ما لا تحمد عقباه. فهذه اللغة عندما ضعفت وعندما أقصيت إلى حد ما عن خطاب الناس صار الناس بعيدين عن القرآن؛ لأن القرآن هو باللغة، واللغة هي التي جاء بها القرآن، فصار الناس يقرءون كلاماً لا يفهمونه، وكأن العرب صاروا أعاجم، وفي السابق كان الأعاجم عرباً كـسيبويه، فـسيبويه أعجمي، وهو الذي أصبح أشهر نحوي، وهكذا ابن درستويه من كبار النحاة، و ابن جني ، وكثيرون من النحاة أصلهم أعاجم، بل ومن المحدثين البخاري ، وهو من بخارى، و الترمذي من ترمذ، وغيرهم كثير. والأمر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما العربية اللسان)، فهم تعلموا العربية ففهموا هذا الدين، وجهلنا العربية فبعدنا عن هذا الدين، وهذا أيضاً مكمن خطر وقع للأمة المسلمة في عصورها المتأخرة.
محاربة أعداء الإسلام وعملائهم لجانب التعليم القرآني
الجانب الثالث: جانب التعليم القرآني. فتعليم القرآن حُورب في كثير من بلاد الإسلام، سيما في أوائل هذا القرن مع هجمة الاستعمار، فحصة القرآن في آخر الدوام، وحصة واحدة تكفي في الأسبوع، ولماذا حصة واحدة؟! كتب بعضهم: لماذا نرهق عقول الصغار بحفظ السور القصار! وقال: من يقول: إن السور القصار سهلة؟! فالسور القصار سور صعبة، فسورة (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) يبقى فيها سنة حتى يحفظها مثل ذلك الكاتب الذي ذكر ذلك. وقال: لماذا نعقد الناس؟! ولماذا كذا؟ فنقول: هل أنت تقول كلاماً منطقياً واقعياً أم أنك تتخيل؟! سآتيك بصغار ما تجاوزوا السابعة وهم يحفظون القرآن، فأين التعقيد؟! التعقيد في العقل الذي فسد أو التصور الذي انحرف. فهذا التعليم القرآني أُضعف، حتى إن القرآن لم يعد منهجاً أساسياً، وفي بعض الدول درجة القرآن لا تدخل في التقدير، فمن رسب في القرآن فهو ناجح، وتقدير درجة القرآن بممتاز أو ضعيف ليس له قيمة! ولذلك لم ترتبط الأجيال بالقرآن، وما يزال منهج القرآن يُقص منه ويُقص منه ويُقص منه حتى ما بقي إلا أقل القليل من الآيات البسيطة القليلة، والحفظ غير مهم، حتى إنهم يأتون بمدرسين غير مؤهلين، لذلك انتشر الجهل بالقرآن في تلاوته، وفي فهمه، وفي الالتزام به، وهذا حال سرى في الأمة وقتاً طويلاً، ولا تزال له آثار عظيمة.
http://www.quranway.net=