أمثال القرآن
قال رحمه الله تعالى: (الأمثال: أمثال القرآن من أعظم علمه، وعده الشافعي مما يجب على المجتهد معرفته ضربها الله تذكيرًا ووعظا، وهي تصور المعاني بصورة الأشخاص).
نعم ذكر المؤلف هنا أمثال القرآن، والمراد بأمثال القرآن تصوير القرآن للشيء بصورة مماثلة له، وأنتم تعرفون أن المثل هو الشبه من كل وجه، هذا الأصل في إطلاق المثل، وأما الشبه فلا يستلزم أن يكون مماثلا من كل وجه، وإنما يكفي فيه المماثلة من وجه واحد، ولذلك لما ألف شيخ الإسلام ابن تيمية (الوسطية) كتب فيها بلا تشبيه، ثم بعد ذلك لما تأمل في المسألة استبدل كلمة بلا تشبيه إلى قوله: بلا تمثيل، وذلك لأمرين:
الأمر الأول: أن المنفي في القرآن هو المثل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وليس الشبيه.
والأمر الثاني: أن المشابهة تصدق على مجرد المماثلة من وجه واحد، وقد يكون هناك نوع موافقة في الوجود، أو في أصل صفة الحياة، وإن كان وجود الله وحياته ليس مماثلا لوجود المخلوق وحياته، فحياة المخلوق يعتريها النقص ويعتريها المرض ويعتريها النوم ويعتريها الموت بخلاف حياة الخالق سبحانه وتعالى، فالمقصود أن المثل هو المشابهة من كل وجه.
وقد بين الله عز وجل أنه يضرب الأمثال من أجل أن يكون ذلك بيانا لأهل الإيمان وتوضيحا لمراده وتقريبا له إلى الأفهام، وإن كان فيه ابتلاء واختبار للعباد أيصدقون أو يكذبون وإن كان فيه أيضا فتنة لغير أهل الإسلام، وبين الله سبحانه وتعالى أنه لا يستحيي من ضرب الأمثال، وأن أهل الإيمان يقابلون هذه الأمثال بالتصديق والإيقان، وفي القرآن من الأمثال ما يمكن أن يستفاد منه في تعليل الأحكام ويستفاد منه في التفهيم والتوضيح للمسائل، ويستفاد منه في معرفة معاني القرآن على وفق مراد الله سبحانه وتعالى، ويستفاد منه أيضا حتى في تفسير الرؤى فإن الأمثلة القرآنية فيها إشارة إلى مثل ذلك.
قال: (أمثال القرآن) يعني ما في القرآن من أمثال: (من أعظم علم القرآن) وينبغي أن نلتفت إلى الممثِّل قبل أن نلتفت إلى المثَل أو الممثَّل به، لأن المقصود هو الممثِّل. قال: (وعده الشافعي مما يجب على المجتهد معرفته) كأنه جعله شرطا من شروط الاجتهاد، وإن كان جَعْله شرطا فيه ما فيه.
(قد ضربها الله تذكيرا) يعني أن الفائدة من ضرب هذه الأمثال في القرآن هي التذكير والوعظ.
وكذلك فيه بيان المراد، وتوضيح كلام الله سبحانه وتعالى بجعل المعقول بصورة المحسوس، ولذلك نجد القرآن فيه ضرب الأمثلة في عدد من القضايا: في توحيد الألوهية في توحيد الأسماء والصفات في عذاب القبر في عذاب الآخرة، في الجنة والنار، وقد مثل الله عز وجل الحياة بمثابة الزرع الذي سقي من المطر ثم بعد ذلك يخضرّ ثم يصفرّ ثم تذروه الرياح، وهكذا الحياة تزول سريعا، فقرب له حقيقة الحياة من خلال مَثَل محسوس لهم يشاهدونه خصوصا أنهم يشاهدون الربيع في زمانهم، وهكذا بقية الأمثال.
قال: (وهي) يعني أمثال القرآن (تُصور المعاني بصورة الأشخاص) فهي تجعل المعاني الذهنية المراد تقريبها إلى الذهن بصورة أشخاص محسوسة حقيقية. الحياة الدنيا هذا معنى في الذهن أراد الله تقريبه إلى الناس بأن مثَّله وصوَّره بصورة النبات، والنبات شيء مُشَخَّص مشاهَد محسوس، وقد ذكره الله -عز وجل- من فوائد ضرب الأمثال أنه سبب للتذكر، قال سبحانه: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ولهذا من نعم الله على العباد أنه ضرب الأمثال في القرآن، ولذلك امتن الله عز وجل بهذه النعمة فقال: وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ
ومما يتعلق بهذا وله نوع اتصال به أن بعض ألفاظ القرآن يستخدمها بعض الناس كأمثلة في كلامه، فتجده مثلا إذا انتهت مسألة قال: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ إذا وجد إنسان كثير الجدل قال: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا إذا وجد إنسانا مستعجلا قال: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ وهكذا...
هل مثل هذا التمثيل بإيراد آيات من القرآن على أمور محسوسة مشاهدة أو وقائع من بعض الأفراد هل هذا أمر سائغ أو أمر ممنوع منه؟ هذا موطن خلاف بين الفقهاء منهم من منع، لأن القرآن قد نزل للتعبد به والعمل بما فيه، وليس هذا الاستعمال من أغراض إنزال القرآن، والقول الآخر بجواز مثل ذلك وعدم المنع منه، وهذا القول أصح لما ورد في حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على علي وفاطمة فقال: "ألا تصليان من الليل" فقال علي رضي الله عنه إن الله قد قبض أنفسنا وأرواحنا. خرج النبي صلى الله عليه وسلم يضرب فخذه ويقول وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا
للشيخ الاسلام ابن تيمية