وقال الإمام العلامة المحقق أبو العباس أحمد بن تيمية - رحمه الله تعالى ورضي عنه –
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين . أما بعد
فهذا " فصل في نزول القرآن " ولفظ " النزول " :
حيث ذكر في كتاب الله تعالى فإن كثيرا من الناس فسروا النزول في مواضع من القرآن بغير ما هو معناه المعروف لاشتباه المعنى في تلك المواضع وصار ذلك حجة لمن فسر نزول القرآن بتفسير أهل البدع . فمن الجهمية من يقول : أنزل بمعنى خلق كقوله تعالى : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } أو يقول : خلقه في مكان عال ثم أنزله من ذلك المكان .
ومن الكلابية من يقول نزوله بمعنى الإعلام به وإفهامه للملك أو نزول الملك بما فهمه . وهذا الذي قالوه باطل في اللغة والشرع والعقل . و " المقصود هنا " ذكر النزول . فنقول وبالله التوفيق : النزول في كتاب الله عز وجل " ثلاثة أنواع " :
نزول مقيد بأنه منه
ونزول مقيد بأنه من السماء
ونزول غير مقيد لا بهذا ولا بهذا .
فالأول لم يرد إلا في القرآن كما قال تعالى : { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } وقال تعالى { نزله روح القدس من ربك بالحق }
وقال تعالى : { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } وفيها قولان :
" أحدهما " لا حذف في الكلام بل قوله : { تنزيل الكتاب } مبتدأ وخبره { من الله العزيز الحكيم }
و " الثاني " أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا { تنزيل الكتاب } وعلى كلا القولين فقد ثبت أنه منزل منه وكذلك قوله : { حم } { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } وكذلك { حم } { تنزيل من الرحمن الرحيم } { حم } { تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم } والتنزيل بمعنى المنزل تسمية للمفعول باسم المصدر وهو كثير ؛ ولهذا قال السلف : القرآن كلام الله ليس بمخلوق منه بدأ .
قال أحمد وغيره : وإليه يعود أي : هو المتكلم به . وقال كلام الله من الله ليس ببائن منه أي لم يخلقه في غيره فيكون مبتدأ منزلا من ذلك المخلوق ؛ بل هو منزل من الله كما أخبر به ومن الله بدأ لا من مخلوق فهو الذي تكلم به لخلقه .
وأما النزول " المقيد " بالسماء فقوله : { وأنزلنا من السماء } والسماء اسم جنس لكل ما علا فإذا قيد بشيء معين [ تقيد به ] فقوله في غير موضع من السماء مطلق أي في العلو ؛ ثم قد بينه في موضع آخر بقوله { أأنتم أنزلتموه من المزن } وقوله { فترى الودق يخرج من خلاله } أي أنه منزل من السحاب ومما يشبه نزول القرآن قوله : { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده } فنزول الملائكة هو نزولهم بالوحي من أمره الذي هو كلامه وكذلك قوله : { تنزل الملائكة والروح فيها } يناسب قوله : { فيها يفرق كل أمر حكيم } { أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين } فهذا شبيه بقوله : { قل نزله روح القدس }
وأما " المطلق " ففي مواضع . منها : ما ذكره من إنزال السكينة ؛ بقوله : { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } وقوله : { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } إلى غير ذلك . ومن ذلك " إنزال الميزان " ذكره مع الكتاب في موضعين وجمهور المفسرين على أن المراد به العدل وعن مجاهد - رحمه الله - هو ما يوزن به ولا منافاة بين القولين .
وكذلك العدل وما يعرف به العدل منزل في القلوب والملائكة قد تنزل على قلوب المؤمنين ؛ كقوله : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا } فذلك الثبات نزل في القلوب بواسطة الملائكة وهو السكينة . قال النبي صلى الله عليه وسلم { من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده } فالله ينزل عليه ملكا وذلك الملك يلهمه السداد وهو ينزل في قلبه .
ومنه حديث حذيفة رضي الله عنه الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله أنزل الأمانة في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن وعلموا من السنة } والأمانة هي الإيمان أنزلها في أصل قلوب الرجال وهو كإنزال الميزان والسكينة وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله } الحديث إلى آخره فذكر أربعة غشيان الرحمة وهي أن تغشاهم كما يغشى اللباس لابسه وكما يغشى الرجل المرأة والليل النهار . ثم قال : { ونزلت عليهم السكينة } وهو إنزالها في قلوبهم { وحفتهم الملائكة } أي جلست حولهم { وذكرهم الله فيمن عنده } من الملائكة . وذكر الله الغشيان في مواضع مثل قوله تعالى { يغشي الليل النهار } وقوله : { فلما تغشاها حملت حملا خفيفا } وقوله : { والمؤتفكة أهوى } { فغشاها ما غشى }
وقوله : { ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون } هذا كله فيه إحاطة من كل وجه . وذكر تعالى إنزال النعاس في قوله : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم } هذا يوم أحد .
وقال في يوم بدر : { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } والنعاس ينزل في الرأس بسبب نزول الأبخرة التي تدخل في الدماغ فتنعقد فيحصل منها النعاس .
وطائفة من أهل الكلام - منهم أبو الحسن الأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد - جعلوا النزول والإتيان والمجيء حدثا يحدثه منفصلا عنه فذاك هو إتيانه واستواؤه على العرش فقالوا استواؤه فعل يفعله في العرش يصير به مستويا عليه من غير فعل يقوم بالرب لكن أكثر الناس خالفوهم .
وقالوا : المعروف أنه لا يجيء شيء من الصفات والأعراض إلا بمجيء شيء فإذا قالوا : جاء البرد أو جاء الحر فقد جاء الهواء الذي يحمل الحر والبرد وهو عين قائمة بنفسها . وإذا قالوا : جاءت الحمى فالحمى حر أو برد تقوم بعين قائمة بسبب أخلاط تتحرك وتتحول من حال إلى حال فيحدث الحر والبرد بذلك وهذا بخلاف العرض الذي يحدث بلا تحول من حامل مثل لون الفاكهة فإنه لا يقال في هذا : جاءت الحمرة والصفرة والخضرة بل يقال : أحمر وأصفر وأخضر .
وإذا كان كذلك فإنزاله تعالى العدل والسكينة والنعاس والأمانة - وهذه صفات تقوم بالعباد - إنما تكون إذا أفضى بها إليهم فالأعيان القائمة توصف بالنزول كما توصف الملائكة بالنزول بالوحي والقرآن فإذا نزل بها الملائكة قيل إنها نزلت . وكذلك لو نزل غير الملائكة كالهواء الذي نزل بالأسباب فيحدث الله منه البخار الذي يكون منه النعاس فكان قد أنزل النعاس سبحانه بإنزال ما يحمله .
وقد ذكر سبحانه إنزال الحديد والحديد يخلق في المعادن . وما يذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن آدم عليه السلام نزل من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد السندان والكلبتان والمنقعة والمطرقة والإبرة فهو كذب لا يثبت مثله .
وكذلك الحديث الذي رواه الثعلبي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم { أن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض فأنزل الحديد والماء والنار والملح } حديث موضوع مكذوب في إسناده سيف بن محمد ابن أخت سفيان الثوري رحمه الله وهو من الكذابين المعروفين بالكذب .