أولَى العرب في عصر الدولتين الأموية والعباسية اهتماماً كبيراً لأشكال الاتصال السياسي. تحرك هذا الاهتمام في ميدانين، اختص الأول بتأسيس طرق الاتصال السياسي المكتوب وتطويرها، وهو ما تحقق عن طريق تأسيس دواوين الإنشاء. وقد كانت إحدى مهام هذه الدواوين إنشاء لغة سياسية بليغة تفي بحاجات الاتصال السياسي فيما يتعلق بالأمور الداخلية للحكم وعلاقاته الخارجية. أنتجت هذه الدواوين صيغاً وأشكالاً خاصة من لغة السياسة، تم تطويرها، ثم تناسخها، على مدار قرون عدة.
خلّف المشتغلون بهذا الميدان تراثاً ضخماً من الكتابات، ربما كان أهمها تلك التي يوجهها أحد المبرّزين في صنعة الكتابة لغيره من الكتّاب، خاصة المبتدئين منهم، وتتضمن هذه الكتابات موضوعات شائقة، بالإضافة إلى ما يتصل بموضوعات الكتابة ولغتها وشروطها وسياقاتها - مثل أنواع الأقلام والورق الذي يمكن استخدامه، والأمثال والحكم التي يمكن الاستشهاد بها، والمراتب الاجتماعية للعاملين فيها. وكان هدف هذه الكتابات هو تطوير قدرة الكتّاب على إنتاج بلاغة مؤثرة فعّالة. وتعد «رسالة الكاتب» لعبدالحميد الكاتب، و«صنعة الكتابة» لأبي جعفر النحاس، و«مواد البيان» لعلي بن خلف نماذج جيدة لها.
يختص الميدان الثاني بدراسة الاتصال السياسي الشفاهي بأنواعه المختلفة مثل الخطب السياسية التي تُلقى في مناسبات خاصة مثل خطب ما بعد مبايعة الخليفة وخطب ما قبل الاشتباك مع العدو، وخطب صلاة الجمعة حين كان الولاة والخلفاء هم الخطباء.. إلخ، أو الخطب السياسية في الحوادث الطارئة، إضافة إلى المناظرات السياسية والمفاوضات السياسية. وقدّم العلماء المهتمون بهذا الميدان وصفاً للأنشطة اللغوية السياسية ومقوماتها وقوائم المحاذير التي يُوصى باجتنابها، ونصائح عامة تمكن المتكلم من البراعة فيها. ويعد كتاب «البيان والتبيين» للجاحظ ممثلاً جيداً للكتابات في هذا الميدان. وتندرج الاهتمامات السابقة فيما يمكن أن نطلق عليه «إنشاء الخطاب السياسي»، وهو العمل الذي استأثر على مر العصور بجهود أغلب المعنيين بلغة السياسة.
(غياب) نقد الخطابة السياسية في التراث العربي
يصعب العثور في التراث العربي القديم على مؤلفات علمية تُعنى بنقد الخطابة السياسية، من حيث هي أداة للهيمنة والسيطرة، أو من حيث استخدامها لأساليب قد تنطوي على التضليل. يرجع ذلك إلى تقلص مساحة الحرية مجتمعياً وأكاديمياً، إضافة إلى ارتباط معظم المشتغلين بعلوم اللغة في معظم فروعها بالفئات الحاكمة المهيمنة، وانصراف جهودهم إما إلى إنشاء الخطاب السياسي الذي تحتاج إليه هذه الفئات، أو إلى الدفاع عنها.
ومع ذلك، لم يحل غياب نقد علمي للخطابة السياسية دون وجود انتقادات لخطب بعض السياسيين.
وقد نقلت بعض كتب التراث أمثلة لهذه الانتقادات، لعل أشهرها ما تم توجيهه للخطب السياسية للحجاج بن يوسف الثقفي. فقد أمر الخليفة سليمان بن عبدالملك بشن حملة تشهير وشتم على الحجّاج بعد سنوات من وفاته. وتنفيذاً للأمر قام بعض الخطباء بهجاء الحجّاج على المنابر، وكان نقد خطب الحجاج موضوعاً أثيراً لدى هجّائيه. ولأنهم كانوا يتحركون بتحريض من رأس السلطة السياسية فقد مارسوا انتقادهم بحرية تامة.
تأسست هذه الانتقادات على الفجوة القائمة بين كلام الحجّاج وعمله. ينقل الجاحظ في «البيان والتبيين» وصف بلال بن أبي بردة للحجّاج بأنه كان «يصعد على المنبر فيتكلم بكلام الأخيار، وإذا نزل عمل عمل الفراعنة، وأكذب في حديثه من الدجال». ويرتكز نقد بلال على التناقض بين ما يقوله الحجّاج وما يفعله، أو بين «العالم خارج خطبه» و«العالم الذي تقدمه هذه الخطب». وقد أشار بلال إلى أن الحجّاج قد بالغ في فعل هذه الأمور حتى تجاوز مَن يبلغون الغاية في فعلها. وقد تكرّرت مثل هذه الانتقادات على لسان آخرين. فقد نقل القالي في أماليه قول الحسن البصري معرّضاً بالحجاج «(..) مازال النفاق مقموعاً حتى عمم هذا عمامة وقلّد سيفاً». وأوضح الحسن طبيعة هذا «النفاق» في موضع آخر بقوله: «يأمرنا بالمعروف ويجتنبه، وينهانا عن المنكر ويرتكبه».
يرتكز الوصف بالنفاق والكذب على مقارنة القول بالفعل أو اللغة بالواقع. وثمة سكوت عن الوظائف التي يحققها «النفاق» و«الكذب»، وموقف المخاطَبين منه وقت تلقيهم له. وإن كان هناك نص دال يكشف عن التأثير الذي تمارسه لغة الحجّاج الموصوفة بالكذب والنفاق. يروي الجاحظ في البيان والتبيين عن مالك بن دينار قوله: «ما رأيت أحداً أبين من الحجاج، إن كان ليرقى المنبر فيذكر إحسانه إلى أهل العراق. وصفحه عنهم، وإساءتهم إليه، حتى أقول في نفسي: لأحسبه صادقاً، وإني لأظنهم ظالمين له».
بلاغة الباطل
إن ما يلفت الانتباه في كلام ابن دينار ليس قدرة الحجّاج على تزييف الواقع، ولا فاعلية هذا التزييف، وقدرته على إعادة تشكيل وعي المخاطبين - حتى الصفوة منهم الذين يُمثلهم مالك بن دينار - بل نعته هذه الممارسات بأنها تمثل أعلى درجات البيان، ونعت صاحبها بأنه «أبين» الناس. وفي الواقع فإن منتقدي الحجاج طالما أقروا له بالبلاغة والفصاحة، ولم تخفت نبرة إعجابهم ببيانه، حتى في سياق هجائهم له. يرتبط البيان وفق هذا التصوّر الشائع بالقدرة على التزييف والتعمية، وإبطال الحق وإحقاق الباطل. لذلك لم يكن غريباً أن يتواتر تعريف البلاغة والبيان استناداً إلى هذه الممارسات. ومن هذه التعريفات تعريف ابن المقفع للبلاغة بأنها تصوير الحق في صورة الباطل». ويرسم العتابي الوجه الآخر من الصورة حين يُعرّف البلاغة بأنها «تصوير الباطل في صورة الحق». وربما كان الحوار الذي دار في المقابسات بين أبي حيان التوحيدي وأبي سليمان المنطقي وأبي زكريا الصيمري حول ماهية البلاغة، واضح الدلالة في هذا السياق، يقول التوحيدي:
«سألت أبا سليمان عن البلاغة، ما هي؟
- فقال: هي الصدق في المعاني، مع ائتلاف الأسماء والأفعال والحروف، وإصابة اللغة وتحرّي الملاحة والمشاكلة، برفض الاستكراه ومجانية التعسّف.
- فقال له أبو زكريا الصيمري: قد يكذب البليغ، ولا يكون بكذبه خارجاً عن بلاغته؟
- فقال: ذلك الكذب قد ألبس لباس الصدق، وأعير عليه حلة الحق، فالصدق حاكم».
وواضح من هذا الحوار أن البلاغة لا تُظهر الباطل في صورة الحق فحسب، بل إن ماهية الباطل والحق تتحدد وفقاً للمهارة البلاغية ذاتها. وهو ما يؤدي - في المحصلة النهائية - إلى تجاهل العالم خارج اللغة، وتعريف العالم بأنه ما هو داخل اللغة. والنتيجة الأساسية لذلك هي تدعيم سلطة البليغ، الذي يصبح بمقدوره إعادة خلق العالم، وقد يبدو ذلك جميلاً في عالم الأدب، لكنه يصبح خطيراً في عالم السياسة.
نقد لغة الخطابة وغياب الحريات السياسية
لا تكشف الانتقادات التي تعرّضت لها لغة الحجاج السياسية عن توافر مناخ من الحرية النسبية اللازمة لمثل هذه الممارسة. فقد كانت هذه الانتقادات مظلّلة بحماية الحاكم. كما أنها جاءت بعد انتهاء الممارسة الخطابية، وإنجاز الآثار التي استهدفتها، بل بعد وفاة قائلها نفسه. ويمكن أن تكون المقارنة بين ما كان يمكن لنقّاد خطب الحجّاج أن يقولوه وقت وجود الحجّاج في السلطة، وما استطاعوا بعد ذلك قوله كاشفة في هذا السياق. يذكر المبرد في كتاب «الكامل في اللغة والأدب» أن يحيى بن يعمر صارح الحجّاج مرة بما يقع في كلامه من اللحن، فتوعّده الحجاج وخيّره بين القتل أو النفي جزاء مصارحته بالخطأ النحوي أو الصرفي الذي يتكرر في خطبه، وقد اختار يحيى النفي، وتوضح هذه الحادثة غياب هامش الحرية، الذي يسمح بنشوء نقد للخطابة السياسية، والاكتفاء بهجاء بعض السياسيين الراحلين، ممن تكون لدى السلطة المسيطرة مصلحة ما في هجائهم. وهكذا توارى نقد الخطابة السياسية بسبب سيف السلطان، وفي الأحوال النادرة التي انتُقدت فيها الخطب السياسية كان ذلك أيضاً بأمر السلطان. فغدا سيف السلطان - وربما ذهبه - هو الباعث على الصمت أو الحافز على الكلام. لقد عرفت الدولتان الأموية والعباسية أشكالاً من الصراع السياسي، ومع ذلك لم يأخذ هذا الصراع شكل نقد علمي للغة السياسية لكل طرف من أطرافه على خلاف المتوقع نظرياً. ويرجع ذلك إلى أن هذه الصراعات لم تكن - في معظم الأحيان - خلافات معلنة تعكس تعدداً سياسياً، وإنما كانت - إلى حد كبير - صراعات بين قوى مهيمنة بشكل شبه كلي، وأخرى سرية تعمل في الخفاء، أي أنها كانت غالباً صراعات بين قوى مادية وليس لغات سياسية. ومن ناحية أخرى، كان تولي السلطة وتبادلها في ظل الأنظمة الملكية الأوتوقراطية القائمة آنذاك يحدث غالباً دون مشاركة من الشعوب المحكومة. ولم يكن لـ«الرعية» حق نقد الحاكم علناً. ذلك الحق الذي كان يتعرض ممارسوه لدرجات متنوعة من العقاب. وهكذا حال غياب الحريات المجتمعية والاستقلال الأكاديمي، وهيمنة أنظمة حكم أوتوقراطية، تدّعي استناد شرعية وجودها على تفويض إلهي لا يملك «الشعب» سوى الإذعان له، دون نشأة توجه نقدي للخطابة السياسية في التراث العربي. وقد أدى هذا إلى هيمنة التلقي غير النقدي السياسي للحاكم ولمعاونيه، وأصبح العربي القديم، سواء أكان من العلماء أم من العامة، رهين خطاب سياسي واحد مسيطر، لا يملك إلا أن يتبناه، أو أن يسكتْ عنه.
-----------------------------------
سأوصي بصيراً إنْ دنوتُ من البلى
وَصَاةَ امْرِىء ٍ قاسَى الأمُورَ وَجَرّبَا
بأنْ لا تبغ الودّ منْ متباعدٍ،
وَلا تَنْأ عَنْ ذِي بِغْضَة ٍ أنْ تَقَرّبَا
فَإنّ القَرِيبَ مَنْ يُقَرّبُ نَفْسَهُ،
لَعَمْرُ أبِيكَ الخَيرَ، لا مَنْ تَنَسّبَا
مَتى يَغتَرِبْ عَنْ قَوْمِهِ لا يجدْ لَهُ
عَلى مَنْ لَهُ رَهْطٌ حَوَالَيْهِ مُغضَبَا
ويحطمْ بظلمٍ لا يزالُ لهُ
مصارعَ مظلومٍ، مجرّاً ومسحبا
وتدفنُ منهُ الصّالحاتُ، وإنْ يسئْ
يكُنْ ما أساءَ النّارَ في رَأسِ كَبكَبَا
وليسَ مجبراً إنْ أتى الحيَّ خائفٌ،
وَلا قَائِلاً إلاّ هُوَ الُمتَعَيَّبَا
أرَى النّاسَ هَرّوني وَشُهّرَ مَدْخَلي،
وفي كلّ ممشى أرصدَ النّاسُ