ليس من أدنى شك أن ولادة شبكة الانترنت في العقود الأخيرة قد ساهمت في تطوير الفكر الإنساني، ليس على مستوى التخلص من الآليات القديمة في التفكير فقط، وإنما على مستوى إنتاج أنماط جديدة أصبحت لها وسائلها وطرقها الجديدة في التعبير عن هذا التطور.
في هذا السياق يجري الحديث عن الإعلام الإلكتروني كجزء من هذا التطور، الذي طرأ على مجمل العملية الإعلامية من حيث الفعالية، و من حيث سعة مساحة الإعلام، لا من حيث هو قناة إعلامية تضاف إلى القنوات السابقة، و إنما لأنه منحَ المؤسسات و الأفراد والجماعات البشرية الفرصة ليكون لها إعلامها الخاص.
و عمّق هذا النوع من الإعلام مساحة الكشف عن الإنسان في بعده السيكولوجي حيث منح الأفراد فرصة للتعبير عن آرائهم و استخراج مساحات من البوح و التفاعل و ردود الأفعال للأحداث اليومية، ما يضع الفرد أمام مسؤولياته في متابعة مقررات مصيره الإنساني.
ثمة مشكل حقيقي يعتري ساحة الإعلام بشكل عام والإعلام الالكتروني بشكل خاص، فهي ليست ضيقة على مستوى الكم، ولكنها أضيق بكثير على مستوى الكيف. ذلك يعود لغياب حقيقي لمفهوم الحرية المسؤولة، التي تؤسس لخطاب يحترم الآخر من دون أن تكون الحرية المطلوبة انفلاتاً يؤثر على مجمل الحرية الإعلامية بأسرها ، ويساهم في تعميق شرخ مساحة الحرية التي تضيق شيئاً فشيئاً نتيجة لغياب إستراتيجية إعلامية واضحة تميز الغث من السمين.
و ليس سرّاً أنّ المواقع الالكترونية في الأردن تجتذب قدرا كبيراً من القراء عبر قدرتها على فرد مساحات متزايدة لجمهور المتواصلين مع شبكة الانترنت، وتمنح هؤلاء مساحات من التفاعل، لتشكيل رأي عام حول عدد من القضايا، التي تمس المواطن، وعلى الرغم من أنها في بعض الأحيان، وربما عن قصد أو غير قصد، تتسم بالانفعالية من خلال تجييش جمهور المتصلين بها.
و تكشف طبيعة المواقع الالكترونية قدرتها على تفعيل الوعي النقدي وطرح آراء، قد تكون غير رشيدة وتصل في بعض الأحيان إلى درجة الانحدار، لكنها تحمل طاقة تعبيرية تكشف عن طبيعة منتجها سلبا أو إيجابا.
و حتى يتسنى ضبط تلك العملية في إطار يساهم في تطوير الإعلام، بشكل عام والإعلام الإلكتروني بشكل خاص، فلا بد من صياغة قانون يسمح بمحاسبة من يتضرر بما ينشر على تلك المواقع ضمن صيغة لا تسمح بتغول أي طرف على آخر.
في هذا السياق يحضرني ميثاق الشرف الإعلامي العربي، الذي استهدف إيجاد سياسة إعلامية بنّاءة على الصعيدين القومي والإنساني، والتزاما بتوصيات اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، بخاصة ما ورد في مادته الثانية التي تنص على: "أن حرية التعبير شرط أساسي للإعلام الناجح، وهو مكسب حضاري تحقق عبر الكفاح الإنساني الطويل وجزء لا يتجزأ من الحريات الأساسية المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لكن المسؤولية شرط أساسي لممارسة هذه الحرية بحيث لا تتجاوز حدود حريات الآخرين".
فهل سنحافظ على شروط بقاء الإعلام الناجح الذي يعزز مفهوم الحرية؟ أم أن الأهواء و المصالح الشخصية و الصراعات هي التي تحكم مستقبل الإعلام؟!
إنّها مسؤولية كبرى في أعناق القائمين اليوم على إدارة ملف الإعلام و ترسيم طريقه إلى المستقبل.