وعاد كل من الصديقين إلى داره ، الغاضب هدأ وعاد لرشده ، والمغضوب عليه حزين غير مصدق أن
يؤلمه صديقه بهذه الكلمات القاسية الملتهبة .
وبعدما عاد للغاضب رشده ، ندم وتألم ، وضاقت عليه الدنيا بما رحبت . إن كلامه كان جد قاسيا . ليت الكلمات تعود مرة أخرى إلى جوف المرء منا .. هكذا قال لنفسه ، وتمنى في ألم ! .
وقرر الصديق أن يعتذر لصديقه ويستسمحه ، وبالفعل ذهب إليه معتذراً ومنكسراً ، طالباً منه العفو والغفران ، وقبل الصديق اعتذر صاحبه ، وغفر له قسوة كلامه وشدة عباراته الجارحه .
لكن الصديق المعتذر لم يسامح نفسه ، وأحس أن هناك شيئاً قد انكسر في علاقته بأخيه ، حار فكره في كيف يعيد الماء إلى مجاريها ، ويمزق تلك الصفحة المؤلمة من دفتر علاقته بصديقه .
وذهب إلى رجل حكيم طالما كان يقصده طلبا للمشورة والرأي السديد ، فقال له الحكيم : طاوعني فيما أطلب منك ، ولك مني النصيحة الصادقة .
فوافقه الصديق النادم بلا إبطاء ، فقال له الحكيم : خذ هذا الكيس الصغير ، إن به عشرون ريشة من ريش الدجاج ، ضع أمام كل بيت من بيوت حارتنا واحدة ، ثم عد إلي ! .
لم يجادله الرجل في طلبه ، بل أجابه وأخذ منه الكيس ، وفعل ما أمره به الرجل الحكيم .
وعندما عاد أدراجه قال له الحكيم : الآن إذهب وعد إلي بالريش مرة أخرى ! .
فذهب صاحبنا وعاد والكيس فارغة ، فالريش قد أطارتها الرياح بعيدا
.
هنا ابتسم الحكيم قائلا : وكلامنا كالريش ، يخرج منا ويطير أبعد مما كنا نظن ، و لا نستطيع إرجاعه أو السيطرة عليه ما دام قد فارق شفاهنا .
سهل جداً أن ننثر الريش هنا وهناك ، كما أنه سهل كذلك أن نتفوه بالكلمات والعبارات القاسية ، لكننا إذا أحببنا أن نعيد أي منهما مرة ثانية فالأمر ليس بالسهل أو اليسير .
إن الحكمة التي عناها الحكيم هي أن التحكم في السلوك على صعوبته ، أيسر مؤنة من إرجاع الكلمة القاسية أو السلوك المندفع .
وأننا إذا أحببنا امتلاك أفئدة الناس ، فيجب أن نمرن أنفسنا على ضبط النفس ، والتحكم في المشاعر والأحاسيس المختلفة .
إن اللسان يجرح الفؤاد كما يجرح السكين جسد المرء منا ، وكما أن التئام جرح البدن شيء غير مستغرب ، فإن التئام جرح الفؤاد كذلك ممكنا خاصة إذا صاحبه اعتذار جميل وصفح وقبول للمعاذير ، بيد أن الجرح ـ سواء الجسدي أو الحسي ـ حتى وإن اندمل ، ما يلبث يترك أثر يدلل عليه حتى آخر العمر .
فما الذي يضطرنا إلى ترك آثار سيئة في أفئدة الآخرين ، تخبرنا وإياهم كم كنا قساة مخطئين .