تتفاضل الزُّهور بِرائحة العطر، ويَتفاضل الشُّعراء باتِّساع الخيال وحُسْن توْظيف الأبجديَّة،
ويتفاضل العُلماء بالإخْلاص، وتتفاضل الغِيد بالحُسن والحسَب والدِّين، ويتفاضَل الرِّجال بِمكارم الأخْلاق.
ممَّا نُحْسَد عليه - نحن المسلمين - أنَّ لنا أصلاً نعود إليه متَّصلاً سندُه إلى السَّماء؛ لنهتدي به إلى طريقِنا،
فتجِد دائمًا أنَّ المنهج الأخلاقي أو التَّربوي الَّذي قاده خيرُ مَن خطَّت قدماه على الأرض -
هو المنهج الوحيد الَّذي يَقود البشريَّة إلى الفضائِل الحسَنة والمنهج القويم، بل والفوْز بجنَّة الرحمن.
فأنت - أيّها المسلم - المتَّبع لسنَّة نبيِّك - صلَّى الله عليْه وسلَّم -
ما من لحظةٍ تَمرُّ بك أو موقف أو مناسبة، أو تصرُّف أو سلوك، إلاَّ ولك فيه سنَد ممتدٌّ إلى رِسالة السَّماء إلى أهْل الأرْض،
الَّذي قد منَّ الله بهِ عليْنا، وهُو النَّبي محمَّد - صلَّى الله عليْه وسلَّم.
بهذه المُتابعة السَّماويَّة والمنهج الرَّبَّاني استطاع النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أن يُحوِّل مَن حوْلَه إلى قادة عُظماء،
ونجوم وكواكب نيِّرة، يهتدي بها الضَّالّ، ويستزيدُ منها المستنير؛ وذلك لأنَّهم تربَّوا على مائدة مَن قال:
((أدَّبني ربي فأحسن تأديبي))،
أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبَه، فكان القدْوةَ والمنهج والمبلِّغ لرسالة السَّماء.
ولأنَّ دينَنا العظيم ما أنزل من السَّماء عن طريق أفضل الملائِكة إلى سيِّد البشَر إلاَّ ليُنشئ خير أمَّة.
ولأنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قائد البشريَّة إلى كلّ خيرٍ في الدُّنيا والآخرة،
وهو رسول المنهج السَّماوي الإلهي بعد أن بين أصْل رسالته بقوله:
((إنما بُعِثْتُ لأُتمِّمَ مكَارم الأخلاق))،
امتدح ربُّنا - تبارك وتعالى - نبيَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم -
بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وكان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -
يَتَخَلَّق بالقرآن، فكان خُلُقه القرآن.
حُسْن الخُلق مِن أعظم أبواب الخير، فهو مِن أوسعِ أبوابها؛
فعن النواس بن سمْعان الأنصاريِّ - رضي الله عنه - قال: سألتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -
عن البِرِّ والإثم، فقال:
((البِرُّ حُسْن الخُلُق، والإثم ما حاك في صَدْرك وكرهت أن يطَّلع عليه الناس))؛ رواه مسلم (2553).
فأخبر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ أعظم خِصال الخير، وأكثرها وأهمها، حُسْنُ الخُلُق؛
كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الحجُّ عرَفة))،
فمَن فاته الوقوف بعرفة، فاته الحجُّ، ومَن حُرِم حُسن الخلُق حُرِم الخير.
فخِيارُ هذه الأمَّة هم مَن حَسُنتْ أخلاقهم، فعن عبدالله بن عمرو -
رضي الله عنهما - قال: لَم يكن النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -
فاحشًا ولا متفحِّشًا، وكان يقول: ((إنَّ مِن خيارِكم أحسنكم أخلاقًا))؛ رواه البخاري (3559)، ومسلم (2321).
حُسْن الخُلُق عبادة خفيفة، لا تحتاج إلى إتْعاب البدَن بصِيام النهار وقيام الليل،
ويحصل بها الثوابُ العظيم؛ فعن عائشة قالت: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول:
((إنَّ المؤمن لَيُدركُ بحُسْن خُلقه درجاتِ قائم الليل صائمِ النهار))
رواه الإمام أحمد (24074) بإسناد صحيح.
حُسْن الخلق لا يزال يرْتقي بصاحبه، حتى يوصلَه إلى أعلى الجنة؛ ففي حديث أبي أُمامة -
رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((أنا زعيمٌ ببيت في رَبَض الجنة لمَن ترَك المِراء وإن كان محقًّا، وببيت في وسطِ الجنة لمَن
ترَك الكَذِبَ وإن كان مازحًا، وببيت في أعْلى الجنة لمَن حَسَّنَ خُلُقَه))؛
رواه أبو داود (4800) بإسناد حسن، فجُعِل البيتُ العُلوي جزاءً لأعلى المقامات الثلاثة، وهي حُسْن الخُلُق،
والأوسطُ لأوسطها وهو ترْك الكذب، والأدْنى لأدناها، وهو تركُ المماراة، وإن كان معه حقّ.
وصَفَ الإمام المبارَك عبدالله بن المبارك حُسنَ الخُلق، فقال: "هو بسْطُ الوجه، وبذْلُ المعروف،
وكفُّ الأذى"؛ رواه الترمذي (2055).
فلنحرِصْ على طلاقة الوجه حينما نلْتقي بالناس في مساجدنا وبيوتنا، وشوارعنا ومقارِّ أعمالنا؛
فعن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال لي النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تَلْقى أخاك بوجهٍ طلق))؛ رواه مسلم (2626)،
إطلالة على حسن الخلق
إنَّ أشدَّ ما يؤثِّر في النَّاس ويستحْوِذ على إعجابهم جَمال الخلُق، الذي يزين الإنسان بتيجان المهابة، وروْعة السَّمت الرَّائق.
يَرفع حسن الخلق أناسًا ليْسوا من أهل الثَّراء والحسب، ويَضع سوءُ الخلُق آخرين يتقلَّبون في النَّعيم، وينحدِرون من أنبل وأشْرَف الأصول.
إنَّ تأثير الكلِمة الطَّيِّبة، والبسْمة الصَّافية، واللِّقاء المفْعَم بالرُّوحانيَّة - أبْلغ في قُلوب النَّاس من خُطب السلاطين الرنَّانة، ومن ولائم المتْرفين العامرة، ومن مجامَلات الزُّعماء.
جُبِلَت النفوس على الخير فلا تتقبَّل غيره، وطبِعَتْ على المحبَّة والبساطة فلا تأْلَفُ سواهُما.
إنَّ حُسن الخلق فيضٌ ربَّاني يَملأ الخالق به نفوسَ الأصفياء، ونفحة علويَّة يهَبُها لِمن يحب من خلقِه.
يزيِّن الناس مجالسَهم بأحادِيث أهل الخلق الحسن،
ويتناقلون مواقفَهم الرَّائدة كما تتناقل النسمات الرقيقة شذا الورْد.
تكْتسي الدنيا بالرَّوعة من إشراقات نفوسهم، وتصفِّق السحب فرِحة بمرآهم فتجود بالغيث النَّافع.
يعزِفون ألحان النُّبْل على أوتار الخير، فتشدو عصافير المحبَّة وتتراقص بين يدي الخمائل،
كما تتراقص الأشرِعة بين يدي المراكب التي تقلُّ القلوب المشتاقة.
طابَ لهم علوُّ نفوسهم التي تتربَّع فوق الجوزاء، فتنافس القمر بالسطوع، والشَّمس بالدفء، والبحر بالعطاء.
إنَّ ما يَملكونه لهو أنفَس من الياقوت والألماس، كيف لا يكون نفيسًا وهو غذاء للروح الَّتي هي جوهر الحياة،
وغذاء للوجدان الَّذي هو أرَج النفس؟!
إنَّه لنفيسٌ حقًّا لأنَّه بلسم يشفي بإذن الله، ووشيجة تؤلِّف بين القلوب، وشجرة تنشر الفيء لتظلَّ العابرين.
ما أرْوع أن نقِفَ في الطَّريق المزدحم ليمرَّ كبار السن، ونتأخَّر خطوة ليسبقنا الآخرون، ونبادر إخوانَنا بالبسْمة والسَّلام!
ما أجْمل أن نحبَّ النَّاس ونحترمهم، نُعْطيهم بدل أن نأخُذ منهم،
نُبادرُهم بالزِّيارة بدل أن ننتظِر زيارتهم، نكتُب على الرمل زلاَّتِهم،
ونحفِر فوقَ الصَّخر محاسنِهم، نفعَل أشياء تدخل السُّرور على قلوبِهم، ونكتُب سطورًا تعلِّمهم،
وننظم أشْعارًا ترتقي بذوْقِهم اللغوي!
إنَّ حاجة الإنسان لحُسْن الخلق كحاجة الطَّير الحبيس للأفُق، وحاجة الأرْض للمطر، وحاجة الطِّفْل للأم.
يزْهو المجتمع بِحُسن الخلق ويقْوى ويتماسك، ويَبني لنفسِه مجدًا ومهابةً بين المجتمعات الأُخْرى.
أدْرك هؤلاء الرَّائعون أنَّ أعمارهم شجرةٌ في خَميلة الحياة فغرسوها في أخْصب تربة،
وفهِموا أنَّها رسالة فصاغوها من أرقِّ البيان وأجمل الكلم، وعلموا
أنَّها بيت فشادوه من لبنات الإخلاص وفرشوه ببسط المحبَّة
وزينوه بالمعرفة، وسوَّروه بالعمل والعلم والعبادة ومحبَّة النَّاس.
ما أنْبلَ سجايا أهلِ الخلق الحسن عندما يشْعرون بالمحتاجين فيمدُّون لهم يدَ العوْن، ويحسُّون
بالمجْروحين والمكْروبين فيواسونَهم، ويحسُّون بالمتخاصمين فيصْلحون بيْنهم!
يُشاركون النَّاس أفراحَهم، سواء أأرسلتْ إليهم بطاقات دعوة أم لَم تُرْسل،
يتجوَّلون فوق خارطة الحياة بحريَّة وإنسانيَّة فيتجاوزون حدود العصبيَّة والقرابة،
ويقفزون فوق أسوار العِرْق والجنس واللون، يهتدون بأنوار الله،
ويستظلُّون برحمة الله ورضاه، تحفِزهم نفوس تنبض بالطُّهر، وقلوب مبصرة تتكلَّل بالصدْق.
يتمنَّون الخير لجيرانِهم فيجدونهم في ديارهم، ويدْعون
لإخوانهم بالخير والعافية فتمطرُهم سحائب الخير قبل إخوانِهم.
هم رئة الكون الواسعة، ونهر الخير المعطاء الَّذي يجري في القفار فيروي ظمأَها ويزيِّنها بالخضرة،
هُم الشَّواطئ الليِّنة التي تمتصُّ غضبة البحار والمحيطات، والجبال التي تَحتمل ثورات البراكين وانتِفاضات الزلازل،
والنَّسمات التي تبدِّد الدخان من فوْق أعشاش الطيور وأسراب الفراش.
يعْملون لله، ويعودون المرْضى لله، ويبتسِمون لوجه لله، همُّهم رضا الخالق،
يدعون في الليل لينام النَّاس آمنين مطمئنِّين، ويعملون بجد في النَّهار ليسير مركب الحياة بأمان ويسر.
في الختام أحبتــي الكرام:
ربَّما طرَح أحدُنا سؤالاً:
كيف أُحسِّن خُلقي، فالبعض منَّا ليس براضٍ عن بعض تصرُّفاته؟
فأقول: تذكَّر أخي أنَّ حُسْن الخلق عبادةٌ - كما تقدَّم -
فهو يحتاج إلى مُجاهَدة النفس في البداية كسائرِ العبادات، فالجنة حُفِّت بالمكارهِ،
فخالِفْ نفسَك، وتجنَّبْ ما اعتدتَه من أخلاق سيِّئة، واحرِصْ على كثرة الدعاء بأن يهديَك الله لأحسن الأخلاق،
ويصرفَ عنك سيِّئَها، فمعلِّم الناس حُسْنَ الخُلق يدعو ربَّه بذلك، فغيره أحوجُ للدعاء؛
ففي حديث عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -
كان مما يقوله في استفتاح صلاتِه:
((واهْدِني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصْرِف عني سيِّئَها، لا يصرف عني سيِّئَها إلا أنت))؛
رواه مسلم (771).
واحرِصْ على الاقتداء بمَن حسُنتْ أخلاقُهم،
ولا أكملَ ولا أحسنَ من خُلُق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاجتهد في معرفة كيف كانتْ أخلاقه، واقتدِ به.
رزقنا الله وإياكم الإقتداء الحق بسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
أعتذر على الإطاله نفعنا الله وإياكم