هناك على شاطئ البحر عندما توشك الشمس على المغيب، عندما ينطق البحر بسره الرهيب، عندما يأتي الموج ليلامس لآلئ الشاطئ العجيب، تجد طفلاً يجيد البكاء والنحيب، ويروي أسراره للبحر والقمر الذي يتوارى من بعيد، طفل اتخذ من الشاطئ متكأ ومن البحر بئراً عميق، ليقص له أسراره وأحلامه ويدفنها في أعماقه مع اللؤلؤ والمحار. طفل لم يجد في الدنيا من يحفظ أسراره ويخفف آلامه، ويشكي له أحزانه، فاتخذ البحر صديق.
يقول طفلنا الصغير «عندما أنظر إلى البحر ساعة المغيب، والشمس محمرة كأنها تفارق الحبيب، يتملكني شعور غريب، يحملني معه وراء الأفق لأضيع، لأعيش في عالم غير عالمي، لأسير في طريق غير طريقي، لطريق لا أعرف نهايتها لطريق قد تقودني لفجر جديد، فأنا كالبحار في بحر يبحث عن شاطئ يرسو به يشعره بالأمان والدفء والحنان». عبارات يرددها طفلنا البالغ من العمر أربعة عشر ربيعاً، يعيش في مدينة قلبها النابض بحرها، والأمل والحياة سكانها.
أمجد طفل اعتاد على الهدوء وتفضيل عدم الكلام، طفل لم يكن يلهو ويلعب ويشاكس كبقية الأطفال، كان يكتفي بقول كلمات معدودة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، يعيش في عالم سري لا يعرف تفاصيله أحد إلا البحر. أمضى أمجد وأخوته الأربعة سنوات طفولتهم محرومين وممنوعين من الخروج خارج أسوار المنزل، فخطت لهم طريق لا يحيدون عنها، طريق أصبحوا يحفظونها ويمشون بها دون دليل، طريق رسمت وخطت في الصخر من المنزل إلى المدرسة ومن المدرسة إلى المنزل. فخوف والداهم المرضي عليهم حرمهم الكثير الكثير ليتعلموه من هذه الدنيا.
بقي الحال كما هو إلى أن جاء ذلك اليوم الذي تقول فيه أم أمجد: «قبل أربع سنوات عاد أمجد للمنزل وهو بحالة غير طبيعية، لم يكلمني ولم يكلم أحد في المنزل، حاولت أنا ووالده معرفة ما جرى له، إلا أنه لم يتلفظ بشيء سوى «لا شيء...لا شيء»، ومنذ ذلك اليوم شعرت أن شيئاً ما حدث له، وبدأت أشعر أن أمجد تغير وأصبح يعاني من شيء لا أعرف ما هو، أهي صدمة أم خجل أم خوف....الخ وازدادت حيرتي بعدم كلامه واختلاطه مع الآخرين».
قرر أمجد ترك المدرسة، وعدم العودة لها ثانية، لأنها أصبحت عديمة الجدوى له، فكان يمضي وقته تائهاً هائماً في الصف، فزملائه يقرءون ويكتبون ويشاركون إلا هو، تراكمت الواجبات وتعددت المهارات التي لم يلتقط منها شيء، فتخلف في دروسه وأهمل فروضه، وأصبح يشعر أنه عبء لا قيمة له في المدرسة، فقرر البقاء بالبيت. أصر والده عليه أن يخرج معه لمساعدته في العمل، لكن والده اكتشف أن أمجد أصبح يشكل عبأً عليه حتى في العمل، فهو دائم السرحان لا يستطيع التركيز بعمل ما، مما حدى بوالده للقسوة عليه وترديد قول «متى ستصبح رجلاً لأعتمد عليك، فكل الأباء يعتمدون على أبنائهم إلا أنا، إلى متى ستبقى هكذا إلى متى....؟»
وفي إحدى جلساته مع صديقه العزيز (البحر) انتفض أمجد قائلاً إلى متى سأبقى هكذا....فقرر قطع الهدوء والسكون الذي يعيش فيه، ويفتح ذراعيه بأقصى مدى ليضم البحر والكون مرة ثانية.
أدرك أمجد أن تعلم القراءة والكتابة هي الخطوة الأولى التي عليه أن يقوم بها، لكن ذكرياته المريرة ومما عاناه في المدرسة أدخلته في دوامة الحيرة، فاحتار بالأمر ولم يعرف ماذا سيفعل.
إلى أن التقى بأحد مدرسيه القدامى حامد –ميسر في البرنامج- الذي أخبره ببرنامج لتعليم المتسربين، بأسلوب شيق وممتع وجديد، ونصحه بالاشتراك في البرنامج، فوجد أمجد ضالته الطريقة التي تناسبه لتعلم القراءة والكتابة، فالتزم بمواعيد جميع الجلسات وأنشطة البرنامج ولم يغب يوماً عنها. يقول حامد «جاء أمجد إلينا ولم يكن يتحدث كثيراً فهو خجول جداً ومنعزل ودائم الخوف ولا يشارك الأطفال الآخرين.
قررت أن أكون صديقه المقرب لأنني شعرت بحاجته إلى أسلوب يختلف عن بقية الأطفال، فهو يريد صديقاً كالبحر يحفظ الأسرار ويريح النفس، وأخذت اجلس معه بعد كل درس، أشركته بمسرحية كان أمجد بطلها، ثم شكلنا له مجموعة دعم من الأطفال الآخرين، حتى بدأ أمجد يخرج من عزلته شيئاً فشيء. لكننا إلى الآن نتجنب الخوض معه في ماضيه، ونؤكد دائما له أن الحياة أمامه لا زالت طويلة وأن المستقبل بانتظاره.
يحلم أمجد بأن يصبح شرطياً ليساعد الآخرين ويمنعهم من ارتكاب الأخطاء، ويحلم أيضاً بأن يأسس مشروعه الخاص به (محل تجاري). ترك أمجد أسراره وماضيه مع البحر فلا أحد يعرفها غيره وسيكون شاهداً على نجاح أمجد ومستقبله. فكم أنت غامض أيها البحر وعظيم.