احرسي وعائك ( غض البصر )
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين..
يمتن الله سبحانه وتعالى على عباده بنعم شتى, لا تعد ولا تحصى, ومن عظيم هذه النعم هي نعمة البصر..
فهي قوة للمبصر, يقضي حاجته دون مساعد, ويدفع الأذى عن نفسه, ويتمتع في عظمة الكون حوله...ولا يُقدّر هذا إلا من كف بصره..
هذه الحاسة تأتي في المرتبة الثانية بعد حاسة السمع من حيث الأهمية حيث قال الله تعالى:{ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيراً} الإنسان
ومما لا شك فيه أن البصر من أعظم المنافذ إلى القلب، يقول الإمام القرطبي رحمه الله:" البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ووجب التحذير منه"
البصر عند حافظة الوحيين
حافظة الوحيين تحفظ قول ربها عز وجل..{ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} النور
وتحفظ قول نبيها عليه الصلاة والسلام(اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا عاهدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم) صحيح الترغيب
فهيا أيتها المباركة, لننطلق من هذين النبعين الصافيين, لننهل منهما الدروس والفوائد, حتى يثمر هذا الحفظ فنكون جمعنا بين العلم والعمل...
ماذا نقصد بغض البصر؟
يُقصد به أن يكف المرء بصره عن جميع ما حرم الله عليه, ولا ينظر إلا لما أباحه الله له.
وفي الآية التي مرت بنا نجد أن الله سبحانه وتعالى قد قدم غض البصر على حفظ الفرج لأن إطلاق البصر في الحرام سبيل إلى الزنا والعياذ بالله وتأملي قول النبي عليه الصلاة والسلام(إِنَّ الله كَتَبَ على بن آدَمَ حَظَّهُ من الزِّنَا أَدْرَكَ ذلك لا مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ وَالنَّفْسُ تتمنى وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلك كُلَّهُ أو يكذبه) رواه الشيخان
و غض البصر ليس مختصًّا بالرجال، بل كما تحفظين من كتاب ربك حيث الأمر موجّه كذلك للنساء لأن لديها شهوة كما هي عند الرجال فأمرت بغض بصرها كي لا تطلق النظر فيهم فترى منها ما يدعوها للتعلق بهم, وتمكنهم من قلبها, فحرصاً على قلبها من الفتن والشهوات وأن يتأثر بما ترى ويؤجج نار الشهوة فيه وجب عليها غض بصرها عن الحرام ليغلق باب الفتنة دونها.
فالواجب على المرأة أن تغض بصرها فهو أقوى لدينها وأصلح لقلبها.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول(وخير صفوف النساء المؤخر،وشرها المقدم، يا معشر النساء إذا سجد الرجال فاغضضن أبصاركن لا ترين عورات الرجال) الحديث.
خطر إطلاق بصرك في الحرام
إن النظر إلى ما حرم الله عز وجل من أعظم المصائب التي تصب المرء, ويورث الحسرات والزفرات، والألم الشديد وتفسد عليه دينه الذي هو أثمن شيء يحمله الواحد منافي نفسه...فإذا خسرت دينك فماذا ربحت إذاً من هذه الحياة؟؟!!
فمن آثاره السيئة التي يجب أن تحذر منها حافظة الوحيين:
1- يفسد قلبك:
هذا القلب الذي تحملين فيه أشرف العلم وأعظمه, يجب أن يكون حصناً حصيناً من سهام إبليس المسمومة وإلا أفسده عليك, فالنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جرحته.
2- يعيق مسيرتك إلى ربك عز وجل:
فإذا اشتغل القلب بما حرم الله عز وجل, أورث صاحبه كسلاً عن الطاعة, وهروباً عن ذكر الله, حتى يوقعه في نهاية المطاف إلى الغفلة عن ربه عز وجل والدار الآخرة.
3- يسبب نسيان القرآن والعلم النافع:
فإن من عقوبات النظر المحرّم إبطال الطاعات وهذا والله أعظم الخسران,
وتأملي قصة هذا الشاب لتدركي خطر البصر:
قال عبدة بن عبد الرحيم: خرجنا في سرية إلى أرض الروم فصحبنا شاب لم يكن فينا أقرأ للقرآن منه ولا أفقه ولا أفرض, صائم للنهار قائم لليل, فمررنا بحصن فمال عنه العسكر ونزل بقرب الحصن فظننا أنه يبول فنظر إلى امرأة من النصارى تنظر من وراء الحصن فعشقها, فقال لها بالرومية: كيف السبيل إليك ؟, قالت: حين تتنصر يُفتح لك الباب وأنا لك. ففعل فأُدخل الحصن, قال عبدة: فقضينا غزاتنا في أشد ما يكون من الغمِّ, ثم عدنا في سريةٍ أخرى فمررنا من فوق الحصن مع النصارى, فقلنا: يا فلان ما فعلت قراءتك؟ ما فعل علمك ؟ ما فعلت صلواتك وصيامك ؟.قال: اعلموا أني نسيت القرآن كله, ما أذكر منه إلا هذه الآية وقرأ{ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين * ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون}
4- من أخطاره كذلك أنه لا يقف عند حد معين:
فإذا تركت لبصرك أن ينطلق حيث شاء دون رادع, فإن البصر سيسترسل إلى مطالعة الصور ، الواحدة بعد الأخرى ، والصورة بعد الصورة ، دون أن يشفي غليله أو يطفئ لهيبه بل هو في ازدياد وانحدار مخيف.
5- هو أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان:
فإن النظرة تولد الخطرة ثم تولد الخطرة فكرة ثم تولد الفكرة شهوة ثم تولد الشهوة إرادة ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة فيقع الفعل ولابد ما لم يمنع مانع, ولهذا قيل: الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده.
6- يفقدك أعظم لذة وهي لذة الأنس بالله عز وجل:
فحينما تطبق المعاصي على القلب, يذهب نور بصيرته, وتصيبه الوحشة, إذ أنه فقد لذة القرب والطاعة لربه.
ما أسباب إطلاق البصر؟
تتعدد الأسباب في ذلك ونذكر منها :
1- ضعف الوازع الديني وقلة خشية الله عز وجل, وجعله أهون الناظرين إليك.
2- إتباع هوى النفس الأمارة بالسوء والاستسلام لحبائل الشيطان.
3- عدم إدراك الخطر الحقيقي من عاقبة إطلاق البصر في المحرمات.
4- تغليب جانب الرجاء وأن الله سيعفو ويغفر ونسيان أن الله كذلك هو شديد العقاب.
5- التساهل في نظر الفجاءة, وعدم غض البصر مباشرة تدفع إلى الاستزادة في الإطلاق فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال( يا عليُّ لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) أبي داوود
6- وجود لذة كاذبة يشعر بها الناظر في نفسه، وهي أثر من آثار الغفلة عن الله وقلة تعظيمه في القلب.
ولكن اللذة الحقيقية هي تلك التي استوطنت في قلوب من عظموا الله عز وجل وغضوا أبصارهم عما نهاهم عنه..
هل أجد لذة حقيقية في غض البصر؟
نعم يا رعاك الله, فغض البصر تجنين منه فوائد عظيمة ذكرها ابن القيم رحمه الله وها أنا أورد لك شيئاً منها:
1- تخليص القلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق نظره دامت حسرته.
2- أنه يورث القلب نورا وإشراقا يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح.
3- أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه, وذلك بسبب نور القلب، فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات.
4- أنه يورث القلب سرورا وفرحة وانشراحا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر، فلذة العفة أعظم من لذة الذنب.
5- أنه يسد عن العبد بابا من أبواب جهنم، فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفاحشة، فمتى غض بصره سلم من الوقوع في الفاحشة.
6- أنه يورث محبة الله، قال الحسن بن مجاهد: غض البصر عن محارم الله يورث حب الله.
7- أنه يورث الحكمة، قال أبو الحسين الوراق: من غض بصره عن الحرام أورثه الله بذلك حكمة على لسانه، يهدى بها سامعوه.
8- أنه يفرغ القلب للتفكر في مصالحه والاشتغال بما ينجيه يوم القيامة.
كيف السبيل لتحقيق هذه اللذة؟
من منا لا يخطئ قط؟؟ ومن منا كانت له الحسنى فقط؟؟
كلنا ذلك المخطئ المقصر ولكن الخير فيمن بادر بالتوبة قبل حلول ساعة الندم قال صلى الله عليه وسلم(كل ابن آدم خطاء ، وخير الخطائين : التوابون) الترمذي
فيا من أصيبت بهذا الداء, لا تقنطي من رحمة الله وإليك بعض الوسائل التي تعينك على غض بصرك:
1- الإستعانة بالله عز وجل والإنطراح على أعتابه والإلحاح في دعائه فاعلمي أنه لا ملجأ لك منه إلا إليه, فقد كان رسولك وقدوتك عليه الصلاة والسلام يقول( اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي) رواه أبو داود
2- تذكري أنه مهما غبتِ عن أعين الناس وأوصدتِ الأبواب إلا أنه مازالت عين الرحمن تنظر إليك, ويرصد حركاتك وسكناتك قال تعالى : { يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور } غافر
فإياك أن تجعلي الله أهون الناظرين إليك.
3- تذكري أن هاتين العينين من نعم الله عليك, وهذه النعمة تحتاج إلى شكر حتى تدوم..فهل تقابلين هذه النعمة بالكفر والعصيان؟؟ وهل تجعلين منها وسيلة لإغضاب الله عز وجل؟؟
4- تذكري نعيم الجنة وما أعده الله لعبادة الصالحين الطائعين له كما قال تعالى عن نعيمها{وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وانتم فيها خالدون}, وأدركي أن الدنيا ساعة فاجعليها طاعة.
5- ابتعدي عن المواطن التي فيها فتنة عليك, من مواقع ومجلات وأسواق ومجالس.
6- داومي على ذكر الله عز وجل وأكثري من النوافل فإن الإكثار منها مع المحافظة على القيام بالفرائض ، سببٌ في حفظ جوارح العبد ، قال الله تعالى في الحديث القدسي ( وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه) البخاري
7- ادفعي وساوس الشيطان وأغلقي دونه كل باب, وكلما نفخ في قلبك بادري بالإستعاذه وارفعي همتك في وجهه قائلة[ لا إني أخاف الله رب العالمين] فإن كيد الشيطان ضعيفاً وإذا رأى منك القوة ولّى هارباً.
8- احذري من أن تكون خاتمتك وأنت مطلقة العنان لبصرك فيما حرم الله...فتبعثين على تلك الحال المخزية.
9- الله الله بالصبر...والمجاهدة في ذلك ولا تيأسي وابشري بالإعانة من ربك حيث قال{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}العنكبوت.
10- متعي بصرك بالنظر في ملكوت الله عز وجل, في عظمته وبديع صنعه, في آياته في السموات والأرض, فهذا من شأنه أن يزيد إيمانك ويشغلك فيما ينفعك..
ختاماً...
يا حافظة الوحيين احرسي قلبك ولا تجعلي عينيك منفذاً للشيطان إليه...فقلبك يحمل آيات بينات وعلم من أشرف العلوم...وأنتِ مؤتمنة عليه..
فإياكِ إياكِ أن تبدلي نعمة الله كفراً...وأنتِ أولى الناس بإمتثال أوامر الله واجتناب نواهيه..ثم كوني سفيرة خير لأهلكِ وأخواتكِ ومن حولكِ صححي أخطائهم وابذلي النصح لهم..فالمؤمن يحب الخير لإخوانه كما يحبه لنفسه...