شمولية الشريعة ووجوب تطبيقها
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
قال تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ " (آل عمران :102)
قال تعالى :" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" (النساء :1)
قال تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" (الأحزاب :70 ـ 71)
أما بعد:
-أيها المسلمون- إن شرعة الإسلام لهي شرعة الشمولية والعدل
وإن سمة الاعتدال والعدل تتجلى في صور سماحة الإسلام، وهذه السمة هي علامة لهذه الأمة التي نشرت الحق والعدل والسلام والخير في ربوع الأرض ، وما وصلنا إلى ما نراه اليوم إلا نتيجة لترك الشريعة والبعد عنها إلى غيرها، والأمل في الخروج من هذا هو في عودة أمة الوسطية إلى منهج ربها وخالقها وتحكيم شرعته.
و الإسلام -أيها المسلمون- سهل يسير لا يحتاج إلى كثرة تفكير، بل الإسلام قريب سهل:
فالإسلام سهل كما يقدمه × ، وليس هو كما يقدمه من في ذهنه شبهات عن صعوبة وتعقيد هذا الدين، وهم يلقون هذه الكلمات في الساحة.
وفي النظام السياسي: جاء الإسلام وسطاً بين النظم، مبيناً حقوق الراعي والرعية، حاضَّاً على العدل والقسط، معلياً قيم الحق والأمن والسلام، والسمع والطاعة بالمعروف، مترسماً المنهج الشوري المتكامل، سابقاً شعارات الديمقراطيات المعاصرة إلى تحقيق منافع البلاد والعباد في بعد عن الاضطراب والفوضى، محاذراً الديكتاتورية في الحكم، والاستبداد في الرأي قال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران:159] . وقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} الشورى(38)
أدلة سماحة الإسلام وشموليته:
قال تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} الأنعام (38)قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} النحل(89)قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة (185)
وقال تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]
وقال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]
وقال تعالى:{طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1-2]
وقال تعالى:{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} النساء(27ـ 28)
وعن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيّ الأديان أحبّ إلى الله.قال: «الحنفيّة السّمحة» ) . رواه أحمد (1/ 236)وعلقه البخاري (باب الدين يسر) رقم (29) ، الفتح (1/ 116) بلفظ «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة».قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: قوله (أحب الدين) أي خصال الدين؛ لأن خصال الدين كلها محبوبة، لكن ما كان منها سمحا- أي سهلا- فهو أحب إلى الله. ويدل عليه ما أخرجه أحمد بسند صحيح من حديث أعرابي لم يسمه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «خير دينكم أيسره» . أو الدين يسر، أي أحب الأديان إلى الله الحنيفية. والمراد بالأديان الشرائع الماضية قبل أن تبدل وتنسخ. والحنيفية ملة إبراهيم، والحنيف في اللغة ما كان على ملة إبراهيم وسمي إبراهيم حنيفا لميله عن الباطل إلى الحق لأن أصل الحنف الميل، والسمحة السهلة، أي إنها مبنية على السهولة، لقوله تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ وهذا الحديث المعلق لم يسنده المؤلف في هذا الكتاب، لأنه ليس على شرطه، نعم وصله في كتاب الأدب المفرد، وكذا وصله أحمد بن حنبل وغيره من طريق محمد بن إسحاق عن داود ابن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس وإسناده حسن لكونه تقاصر عن شرطه، وقواه بما دل على معناه لتناسب السهولة واليسر. فتح الباري (1/ 116- 117) .وقال ×: {هلك المتنطعون} ،: {إن هذا الدين يسر؛ فأوغلوا فيه برفق، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه} رواهما مسلمالإسلام ومتطلبات الروح والجسد:إخوة الإيمان: وثمة مجال آخر تتألق فيه شمولية وسعة هذه الشرعة المطهرة ، وهو مجال العبادة ومراعاة مقتضيات الفطرة، والتناسق البديع بين متطلبات الروح والجسد، بلا غلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاز المادي، فلا رهبانية ولا مادية بل تناسقٌ واعتدال على ضوء قول الحق تبارك وتعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص:77] .وقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، وأنكر على من حرم نفسه طيبات الدنيا قائلاً: {أما إني أخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني} مخرج في الصحيحين.وعند مسلم : {هلك المتنطعون} ، وعنده أيضاً: {إن هذا الدين يسر؛ فأوغلوا فيه برفق، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه} ، وفي صحيح مسلم أيضا قال ×{إن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه} . وهكذا نأى الإسلام بأتباعه عن كل الكبوات والنبوات، والهزات والهفوات، التي تخل بغاية الوجود الإنساني، وتضيع حقوق الإنسان، وتفرط في تحقيق التوازن بين متطلبات روحه وجسده، حيث تأرجحت كثير من النظم المادية، كما هو ظاهر في المدنية الغربية، التي تنطلق من نظرات ومقتضيات مادية صرفة، حتى تنادى عقلاؤهم ومنصفوهم بالحاجة إلى دين يحقق التوازن بين الرغبات والتناسق بين المتطلبات، ويرتفع بالبشرية إلى مستوى إنسانيتها، وتحقيق قيمها ومثلها، وينتشلها مما تعاني منه من بؤس وطغيان وشقاء.وجوب تحكيم الشريعة: إن العودة الصادقة إلى الكتاب والسنة ليست نافلة ولا تطوعاً ولا اختياراً، بل إنها شرط الإسلام وحد الإيمان، والحكم بالتحليل والتحريم حق لله سبحانه وحده ليس له شريك في ذلكقال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [الأنعام:57] وقال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36] وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] ، وقال سبحانه:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
وقال سبحانه:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[المائدة: 44- 45- 47]
وقال سبحانه:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] ، وقال يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] .فالعودة إلى القرآن والسنة ليست نافلة ولا اختياراً، بل إنها شرط الإسلام وحد الإيمان.وهذا نبينا × لا يحكم إلا كتاب الله عز وجل.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُمَا قَالاَ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلَّا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ الخَصْمُ الآخَرُ: وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، نَعَمْ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأْذَنْ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ، قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ، وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ العِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، الوَلِيدَةُ وَالغَنَمُ رَدٌّ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرُجِمَت.الإسلام دين العدل:
قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } النساء(58)
وقال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} النحل (90)
وقال سبحانه:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الحجرات (9)
وقد سجل القرآن الكريم عدالة نادرة حول إتهام رجل من اليهود بالسرقة ظلماً، وكان المتهم له بها بعض المسلمين دفاعاً عن السارق الحقيقي، وهو رجل مسلم منهم، ورُفع الأمر إلى صاحب الدعوة - × - وهَّم بقطع يد اليهودي - زيد بن السمين - وتبرئة السارق الحقيقي المسلم - طعمة بن أبيرق - من بني ظفر.ولكن قبل أن يقيم صاحب الدعوة الحد على المتهم اليهودي البريء نزل الوحي الأمين يجلجل بهذه الآيات المباركات:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينً} .لقد نصَّب القرآن نفسه محامياً ومدافعاً بالحق والصدق عن رجل يهودي، يؤمن إيمان اليهود، ويلغط لغطهم، ويفترى على الله ورسله كما تفتري الطائفة التي ينتمي هو إليها، ينسب لله - سبحانه - الصاحبة والولد، ويؤمن بالتاريخ الدموي لليهود حتى على أنبيائهم ورسلهم ويقول كما يقولون: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} . {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} ومع هذا يأبى الإسلام أن يقع عليه ظلم وهو برئ. فأي سماحة هذه؟ وفي أي دين أو نظام نجد لها مثيلاً.أما الذين ترافع ضدهم القرآن - إن جاز هذا التعبير - فهم مسلمون مؤمنون موحّدون؟ يصلَّون ويصومون ويحجون. ومع هذا ترافع القرآن ضدهم، ولامهم أقسى ما يكون اللوم، ومن يراجع القصة مفصّلة في كتب التفسير يتبين له عدل وإنصاف وسماحة هذا الدين العظيم، كأخلص ما يكون العدل، وأروع ما يكون الإنصاف، وأسمح ما تكون السماحة. فليرنا الذين يصفون الإسلام أنه دين الإرهاب والعنف وسفك الدماء، ومصادرة الحريات ليرنا هؤلاء سماحة تدنو من سماحة الإسلام، وعدلاً يقارب عدل الإسلام، وإنصافاً يضارع إنصاف الإسلام؟هذا هو ديننا المنزَّل بعلم الله، المحفوظ بقدرة الله. فهل عند الخصوم بضاعة كبضاعتنا؟ ألا فلينثروا ما في كنانتهم إن كان لهم كنانة، وفيها نبال وسهام.عَنِ ابْنِ عُمَرَ قال: كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَأْتِيهِمْ فِي كُلِّ عَامٍ فَيَخْرُصُهَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يُضَمِّنُهُمُ الشَّطْرَ، فَشَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَامٍ شِدَّةَ خَرْصِهِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَرْشُوهُ، فَقَالَ: " يَا أَعْدَاءَ اللهِ، تُطْعِمُونِي السُّحْتَ وَلَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ النَّاسِ إِلِيَّ، وَلَأَنْتُمْ أَبْغَضُ إِلِيَّ مِنْ عِدَّتِكُمْ مِنَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَلَا يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ وَحُبِّي إِيَّاهُ عَلَى أَنْ لَا أَعْدِلَ عَلَيْكُمْ " فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ. «صحيح أبي داود» (2658) . ورواه مالك في الموطأ(2/ 703) وأحمد في المسند (4768).الناس سواسية في ميزان الإسلام:أيها الأحبة الكرام! بكل أسف شوهت صورة الإسلام الوضيئة! بكل أسف لطخت صورة الإسلام الزاكية! فالإسلام الآن متهم عند هؤلاء المجرمين بالتطرف والأصولية والإرهاب.يا مسلمون! ارفعوا أنوفكم لتعانق الرءوس كواكب الجوزاء فالإسلام دين الأمن والاستقرار والرخاء، بل إن اليهود والنصارى ما ذاقوا نعمة الأمن والأمان والاستقرار إلا في ظلال الإسلام، وشريعة محمد بن عبد الله×، والتاريخ شاهد على ذلك. وسيظل التاريخ يتألق في هذه الصفحة -صفحة التسامح الإسلامي- إشراقاً وعظمة وجلالة.
أيها الأحبة! إن الإسلام عظيم لا يميز بين الناس إلا بالتقوى والعمل الصالح، فالناس جميعاً على وجه الأرض سواء، لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، وجاء هذا الإعلان القرآني العظيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] ، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبيهقي من حديث جابر بن عبد الله أنه صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع أو في أواسط أيام التشريق قال: (أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى والعمل الصالح، وقرأ النبي قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ) ، هذه حضارة الإسلام! وهذا تسامح الإسلام! لا فضل لمن ارتقى على من تواضع ولا لمن حَكم على من حُكم، ولا لمن اغتنى على من افتقر، فقد ساوى الإسلام بين سلمان الفارسي وصهيب الرومي ومعاذ الأنصاري وبلال الحبشي وحمزة القرشي وأنشدها سلمان بغاية الفخر أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم.
فهذا رائد الحضارة وإمام الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة: (أن امرأة من بني مخزوم من الأشراف سرقت واهتمت قريش بهذا الأمر، وقالوا: من يشفع لها عند رسول الله، وانطلق حب النبي أسامة بن زيد ليشفع للمخزومية عند المصطفى، فغضب غضباً شديداً وهو يقول لـ أسامة: أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟ ثم ارتقى المنبر، وقال بعد ما حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس! إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) تلك حضارة الإسلام.وهذا عمر فاروق الأمة رضوان الله عليه لما نزل من المدينة ليتسلم مفاتيح بيت المقدس أعطى لأهل إيليا من النصارى الأمان لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وأمر أن لا تهدم كنائسهم! وهذا عمر بن عبد العزيز لما فتح الإسلام مدينة سمرقند وأرسل أهل سمرقند لأمير المؤمنين عمر رسالة يقولون فيها: بأن الفتح الإسلامي للمدينة فتح باطل؛ لأن الجيش لم يدعونا للإسلام، ولم يفرض علينا الجزية إن امتنعنا، ولم يخبرنا بالمنابذة، فلما عرض عمر بن عبد العزيز الأمر على قاض المسلمين أقر القاضي ببطلان الفتح الإسلامي لسمرقند، فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن أصدر الأوامر لقائد جيوشه في بلاد سمرقند بالانسحاب فوراً، فخرج أهل سمرقند عن بكرة أبيهم بين يدي الجيش الفاتح -المنتصر على نفسه ابتداء- ليعلنوا جمعياً القولة الخالدة: نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً رسول الله.ولما فتح المسلمون الشام، واستولوا على حمص ودمشق، وفرضوا الجزية على أهل حمص وعلى أهل دمشق، سمع القادة المسلمون بقيادة أبي عبيدة بن الجراح أن هرقل قد جمع جيشاً جراراً لينقض على الجيش الإسلامي انقضاضاً ساحقاً، فما كان من قادة المسلمين إلا أن ذهبوا إلى أهل دمشق وحمص ليخبروهم بأنهم لن يستطيعوا أن يدفعوا عنهم في مقابل الجزية، فردوا الجزية كلها إلى أهل حمص ودمشق، فخرجوا جميعاً -مع أنهم كانوا يدينون لدين النصارى من الروم- يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لعدلكم أيها المسلمون أحق إلينا من جور الروم وظلمهم، وإن كنا على مثل دينهم.وأظن أنكم جميعاً تعلمون قصة اليهودي الذي سرق درع علي بن أبي طالب، فيقف إلى جوار أمير المؤمنين علي أمام قاض مسلم، فيقول القاضي لـ علي وهو أمير المؤمنين: ما القضية؟ فيقول علي: الدرع درعي ولم أبع ولم أهب، فيلتفت القاضي إلى اليهودي ويقول: ما جوابك؟ فيقول: الدرع درعي وهو معي، فيقول القاضي: هل معك من بينة يا أمير المؤمنين؟ فيقول: لا، فيقضي القاضي بالدرع لليهودي، فـ (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر) ، وينطلق اليهودي بالدرع وهو يكلم نفسه: أقف إلى جوار أمير المؤمنين في ساحة القضاء، ويقضي القاضي المسلم بالدرع لي، وأنا أعلم يقيناً أن الدرع لـ علي والله إنها لأخلاق أنبياء، فيرجع اليهودي إلى القاضي ليقول له: أيها القاضي! أما الدرع فهو لـ علي، وأما أنا فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلما سمعها علي رضوان الله عليه قال: أما وقد أسلمت فالدرع هدية مني لك.وهذا صلاح الدين يوم أن حطم الصليبيين في موقعة حطين، وسمع أن رتشارد قلب الأسد ذلكم القائد المراوغ الخبيث قد مرض، فما كان من صلاح الدين إلا أن أرسل إليه بطبيبه الخاص وبدواء من عنده.ومحمد الفاتح ذلكم السلطان الشاب المبارك لما فتح القسطنطينية تحقيقاً للنبوءة النبوية، وأعطى الأمان لآل كنيسة (آيا صوفيا) الشهيرة، أعطاهم الأمن والأمان على أنفسهم وأموالهم وكنيستهم، ولم يصبهم بأي أذى أو بأي سوء.إنها سماحة الإسلام! تلك أخلاقنا! وهذا ديننا فهو دين الأمن والأمان دين السماحة والرخاء والاستقرار، ولكن بكل أسف شوهت الصورة المشرقة للإسلام، وركزت المجاهر المكبرة على بعض الأخطاء الفردية من المسلمين هنا وهنالك، حتى وصم الإسلام كله والمسلمون جميعاً بالأصولية والتطرف والإرهاب!
كتبه
سيد بن رجب
16/2/2011 م
12 ربيع الأول 1342 هـ