ليست فقط تحوّلا تاريخيا، كما وصفها قادة غربيون، بل إنها ثورة العرب في مصر، حيث ولد في الحادي عشر من شباط «فبراير» 2011 حلم العروبة الذي أجهض مع رحيل الزعيم التاريخي جمال عبد الناصر في العام 1970.
وبكل مقاييس الثورات الكبرى في التاريخ الإنساني، حازت الثورة المصرية سمة الفرادة، لأنها تجاوزت الركنين التقليديين لأي ثورة وهما:
ـ أيديولوجيا ثورية،
ـ قيادية كاريزمية «تاريخية»،
فقد استعاضت الثورة عن الأيديولوجيا بالتكنولوجيا، لا على سبيل نفي الهدفية الثورية، ولكن كوسيلة تعبئة جماهيرية، وشكّل الثوّار قيادة جماعية في الواقع الافتراضي ثم جسّدوها في الميدان لحظة اندلاع الثورة. ولا بد هنا من الإشارة الى نقطة جوهرية تنبئ عنها ثورتا تونس ومصر، وتنسحب على مشاريع ثورية أخرى في أي مكان في العالم، وهي أن الفئات الحديثة التي شكّلت وعيها في ظل العولمة الاتصالية حقّقت ما عجزت عنه الأحزاب التقليدية، حيث إنها بزغت في لحظة تاريخية دقيقة بدأ فيها النظام السياسي يهرم الى حد أنه استنفد، في لحظة قياسية، كل خيارات القمع. فالفئات الحديثة ورثت أدوار الأحزاب القديمة وتحوّلت إلى تنظيمات أهلية ولكن بأشكال متطوّرة، الأمر الذي ساعدها على أن تلتقي على أهداف كبرى دون الاكتراث بالانتماءات التقليدية/البدائية «العرق، العائلة، الطائفة، المذهب».
وعلى قدر الموج المتداعي من مركز الثورة المصرية عربياً وعالمياً، ثمة تحديات جمّة تتربّص بمصر الثورة، والعروبة، وفي الغالب هي تحديات خارجية تعكس نفسها في الداخل المصري في أشكال شتى.
كل القوى المناوئة للثورة خارج مصر، على وجه الخصوص، لن ترضى عن رحيل «الدكتاتور»، ولا انبعاث الحلم العربي، وأن كل الأطراف الإقليمية التي مارست ضغوطا على الإدارة الاميركية للحيلولة دون انفصال الدكتاتور عن الكرسي «بلغة أحد المتهكّمين في ميدان التحرير»، لن تكون سعيدة بما ستبعثه الثورة المصرية من أحلام التحرر من ثنائية المصلحين الأوائل «الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي»، كما ستمقت بشراسة رؤية اشتعال الحرائق في الكيانات السياسية القائمة.
لا ريب أن انتصار الثورة المصرية منجز قومي على مستوى الشعوب العربية، ولكنّه على مستوى الأنظمة العربية هو بمثابة كابوس مثير للفزع راهناً وعاجلاً. هذه المفارقة على مستوى الموقف، والعاطفة الجمعية، والصيرورة التاريخية، تفرض نفسها على أداء الشعوب والأنظمة ما بعد انتصار الثورة.
ندرك تماماً من واقع ألم وأمل الشعوب العربية طبيعة أدائها، ولكن ما ينقصنا التأمل فيه أحياناً، رغم تجارب قليلة نادرة حول موقف بعض الأنظمة الإقليمية من حركات ثورية مثل ثورة يوليو 1952 في مصر، والثورة الإيرانية في فبراير 1979، وصولاً الى الثورة التونسية في يناير 2011 والثورة المصرية في فبراير 2011، هو أن حركة ضخمة من التدابير سيجري الإعداد لها من أجل تعطيل مفاعيل الانتصار خارجياً، وسنلحظ عمّا قريب إشاراتها المريبة في الإعلام كما في السياسة، قبل أن تنتقل الى حقول أخرى ثقافية، واقتصادية، وأمنية وعسكرية، كيما يتحقق الفصل بين مصر والعروبة.
ونستدعي هنا صورة مصر منذ كفّت بعد العام 1970 عن أن تكون مركز الجاذبية القومية للشعوب العربية، والحاضنة لأحلامهم، لتتحوّل الى مجرد كيان هلامي طيلة أربعة عقود، وأن يصبح جيشها القومي الذي قاد انتصار اكتوبر 1973 مجبولاً على «هبات» خارجية أميركية وسعودية، ما ترك ندوباً سوداء قاتمة في سيرة هذه المؤسسة الرائدة، ولكن بعد استعادة مصر لدورها التاريخي والمركزي، يعني بالنسبة لقوى مناوئة لثورتها «قطيعة» معها. تمنّت هذه القوى أن تشهد مصر انقلاباً عسكرياً، بما لا يتجاوز تغييراً شكلياً في السلطة، أمّا وقد أينعت ثورة شعبية شاملة لا تقف عند مجرد «تعديل عميق في نظام الملكية» بحسب رؤية ماتييز للثورة، فإنها تجاوزت ذلك إلى تغيير جذري للأنظمة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية. لا مانع لدى القوى المناوئة للثورة أن يبقى المصريون مضطهدين على ألا يتحوّل الاضطهاد إلى محرّض ثوري فعّال، وهذا ما حصل.
الثورة تعني تعديل موازين القوى، وإرساء مبادئ المساواة والحرية والعدالة، وهذا ما لا تبتغيه القوى المناوئة للثورة في الخارج والداخل سواء بسواء، ولذلك فقد يجري ضخ الأموال من أجل إعادة إنتاج «التفاوت الطبقي» مجدداً، لأن مجرد العمل على بناء مجتمع سواسي يعني تحوّل مصر الى «نموذج»، وهذا ما لا تطيق القوى المناوئة رؤيته.
الحياة السياسية القادمة في مصر ليست محصّنة تماماً أمام الفساد المالي، الذي سيكون له مصادر سخيّة خارجية إقليمية ودولية، وليس بعيداً نشوء أحزاب سياسية مكفولة مالياً من دول إقليمية ودولية وتعمل وفق أجندة خارجية، وستخوض الانتخابات التشريعية بناء على أهداف محددة، ليست وطنية ولا قومية بالضرورة. لا شك بأن مصر العملاقة في رمزيتها، وشعبها، وحضارتها قادرة على عزل الظواهر الناشزة في المجال الحيوي للحراك السياسي المحلي في مصر، ولكن ما يجعل التوجّس مشروعاً أن الحياة السياسية في مصر توقّفت منذ عقود، ما يجعل المشاغبة عليها إمكانية قائمة في المدى المنظور.
قد تسعى القوى المناوئة للثورة إلى إفساد الحياة الديموقراطية عبر تشويه مفهوم التعددية السياسية، وتشجيع الأيديولوجيات ذات الطبيعة الجدلية التي تشتمل على قدرة فائقة في المشاغبة والمشاغلة لاستهلاك القدر الأكبر من طاقة المجتمع. ثمة مشكلة معقدة قي الحياة السياسية المصرية أننا أمام أحزاب سياسية مترهّلة وتتطلب إعادة تأهيلها إمكانيات مالية وبشرية ضخمة، فيما الجماعات الحديثة الشبابية التي قادت الثورة قد لا تكون، ظاهراً على الأقل، في مرحلة الجهوزية الكاملة لخوض «معركة الدولة»، باعتبارها البيئة المؤهّلة للتداول السلمي للسلطة، ما يفسح في المجال أمام القوى المناوئة للثورة من الخارج بضخ الأموال «النفطية بدرجة أساسية» للتسلل الى الحياة السياسية.
إن الاحتفالية الواسعة النطاق التي عاشتها الأمة منذ الحادي عشر من شباط «فبراير» تحرّض القوى المناوئة للثورة خارجياً على «إعادة تشغيل» الهواجس الذاتية من حتمية التغيير القادم، إيذاناً ببدء التسلسلات الآلية لعقدة «تصدير الثورة»، حيث يتم تصميم الوصفة على قدر الهلع والمدى الافتراضي الذي يمكن الثورة أن تصل إليه، أو بما يخيّل إليهم أنه كذلك.
الوقوع تحت وطأة البهجة أو التصوّر الطوباوي للثورة المصرية قد ينسينا تدابير التحصين، فثمة متربّصون بها من كل صوب حاولوا وأدها قبل أن تبلغ لحظة انتصارها التاريخي، وحين كفّت مساعيهم عن تحقيق فعل التعطيل، جهّزوا العدّة لما بعد الانتصار، من أجل تطويق تداعياتها.
ستفعل القوى المناوئة للثورة كل ما من شأنه درء ما تعتبره «أخطارا» مباشرة على إمساكها بالسلطة سواء عبر تمويل جماعات انشقاقية أو تشكيل تكتّلات جديدة تجمع فلول النظام السابق مع جماعات أخرى متطرّفة «وقد تكون القاعدة خياراً ناجزاً»، أو تشجيع جماعات خاسرة في النظام الجديد على لعب أدوار تخريبية داخلية.
وفي التصوّر العام، لن تتجاوز مكافحة ارتدادات الثورة المصرية حدّي «الاحتواء والمشاغلة»، لجهة محاصرتها. فأن يكون للثورة آثار خارجية يعني أنها حققت رسالتها الثانية، شأن كل الثورات الكبرى في التاريخ. ولذلك، قد تستعير القوى المناوئة للثورة المصرية من تكتيكات سابقة جرى استعمالها للتصدي لانبثاث الثورة الاسلامية في ايران، مثل إثارة الانقسامات على قاعدة دينية واجتماعية ومناطقية وطبقية وأيديولوجية في البلدان المرشّحة لاستنساخ التجربة الثورية الإيرانية. ولا يُستبعَد أن يدخل مال وفير ليس لمعاجلة المشكلات الاقتصادية ومساعدة الشعب المصري على تجاوز المرحلة الانتقالية بسهولة، أو حتى إعادة تأهيل بعض القطاعات الانتاجية التي فقدت جزءاً وازناً من حيويتها بفعل انهيار النظام القديم، ولكن سيجري استغلال هذا المال لتعزيز الانقسامات، وتأجيل لحظة النهوض الاجتماعي والاقتصادي، وسنسمع في لحظة ما عن «المال السياسي» كما في تجربتي لبنان والعراق.
كل الخيارات تبدو مفتوحة لدى القوى المناوئة للثورة في سبيل «درء الفتنة =الثورة»، لأن الخطر وجودي في جوهره، ونهايته. ولذلك، فإن مصر الثورة ستبقى مكشوفة، لبعض الوقت، أمنياً وسياسياً وأيديولوجياً، وقد تشهد ولادة تيارات فكرية وسياسية مقطوعة الجذور بالمجتمع المصري، أي أنها ذات روابط خارجية، وتحمل أجندات لا تعكس تطلّعاته ولا حاجاته.
براغماتياً، قد تفرض الضرورة ومتطلبات الحياة المادية للمجتمع، الانغماس في حل المشاكل الملحّة، وهذا ما ستحاول القوى المناوئة للثورة المصرية فرضه قبل أن تصبح نموذجاً «يُحتذَى»، لأن مجرد الخروج من القمقم يعني أن ثمة غاية سامية وجدت طريقها الى الجموع البشرية المنتظرة «فأريج الثورة يأبى إلا الانبثاث بلا حدود».
قد يدخل المال الخارجي الى مصر بعناوين برّاقة، في محاولة استباق لأي تمظهرات مستقبلية للثورة المصرية على الخارج، بهدف امتصاص النقمة الداخلية على الأنظمة التي وقفت ضد إرادة الشعب المصري. في مرحلة الانتصار وبزوغ الحريات سيكون الشعب قادراً على البوح بآرائه في الأنظمة التي ساندت «الدكتاتور». يبقى أن الشعب المصري، شأن الشعوب العربية قاطبة، تتميّز بالطيبة والعفو في الشدّة والرخاء، وقد تغفر أو تنسى، وليس في هذا رسالة تطمين لأي من قادة القوى المناوئة للثورة المصرية، لأن ما يختمر في وجدان الشعوب المقهورة غير قابل للتنبؤ أحياناً.
هناك في نهاية المطاف تحديات كبرى بحجم الثورة وانتصارها التاريخي، ولن تترك كيما تكون مصدر إلهام للشعوب العربية، فثمة نزوع لتجميد الأسطورة ـ الثورة، وتعطيل فعلها لأنها ببساطة تحوّلت منذ لحظة انتصارها إلى خطر داهم