الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين، وعلى آله وصحابته الغر الميامين، أما بعد:
فإن أحب البقاع إلى الله المساجد، شرفها الله وعظَّمها لتكون مجامع للناس إليها يقصدون، وفيها يجتمعون لإقامة الصلاة، والقرب من الله.
وقد جعل الله لها حرمة وقداسة وتشريفاً، فجعل جميعها تتجه في شتى أصقاع الأرض إلى أحب بقعة لديه وهي المسجد الحرام بيت الله العظيم، ولا يوجد مسجد في الدنيا إلا ويجب له من الطهارة الحسية والمعنوية ما ليس لغيره من البقاع والبنيان، وجميع المساجد ينبغي أن تبنى بنِيَّة إقامة شرع الله، وأن تؤسس على التقوى من أول يوم، وما لم تكن كذلك فستكون شبيهة بمسجد الضرار الذي نُهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيه {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً}(التوبة:108)؛ حمايةً لسائر المساجد التي ابتُغِي بها وجه الله.
وهنا نستعرض بعضاً من المسائل المتعلقة ببناء المساجد والتي تدور حول هذه التقدمة المختصرة:
أين تبنى المساجد؟
تبنى المساجد في أماكن طاهرة من الدنس والنجس، والحرام والإثم، فلا يكون البناء على أرض مغصوبة، ولا في حكم المغصوبة كما توجد بعض الأراضي التي تكثر عليها الخصومات، فيتبرع أحد أطراف النزاع بها مسجداً ليسكت الغرماء، أو تؤخذ الأرض حرجاً على وجه الحياء من صاحبها.
كما ينبغي أن يُختار الموقع المناسب لبناء المسجد فتُبنى المساجد في الأحياء والمواقع المناسبة التي يستفيد منها جميع سكان الحي لا في أطراف العمران.
ويراعى أن يكون جوار المسجد مكان طيب طاهر فلا تجاوره فضاءات تنتج عنها أوساخ وغيرها.
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يختار مكاناً في المدينة في دور الأنصار، وينزهه عن درن المشركين وقبورهم، وينظف المكان، ويزيل عنه الأشجار والنخيل فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فنزل أعلى المدينة في حي يقال لهم "بنو عمرو بن عوف"، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أربع عشرةَ ليلة، ثم أرسل إلى بني النجار فجاءوا متقلدي السيوف، كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته، وأبو بكر ردفه، وملأُ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب، وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، وأنه أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ من بني النجار، فقال: ((يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا)) قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، فقال أنس: فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين، وفيه خرب، وفيه نخل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، ثم بالخرب فسوِّيت، وبالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه - جانب الباب - الحجارة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون، والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وهو يقول: ((اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة)) رواه البخاري (428) واللفظ له، ومسلم (524).
وينبغي أيضاً أن لا تبنى على قبر قال شيخ الإسلام: "اتفق الأئمة أنه لا يُبنى مسجد على قبر"1، وقد وردت الأحاديث في النهي عن ذلك فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قال في مرضه الذي مات فيه: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجداً)) قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أني أخشى أن يُتخذ مسجداً" رواه البخاري (1330)، ومسلم (529)، ومعنى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد: أي بنوا المساجد عليها، أو اتخذوا القبور أمكنة للصلاة، ولو لم يبنوا المساجد، وفي قول عائشة رضي الله عنها: "لولا ذلك لأبرز قبره" دلالة واضحة على السبب الذي من أجله دفنوا النبي صلى الله عليه وسلم في بيته ألا وهو سدُّ الطريق على من يُخشى أن يبني عليه مسجداً.
وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ((... ألا وإنَّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك)) رواه مسلم (532).
ومعنى اتخاذ القبور مساجد:
- أن تبنى عليها مساجد ليقصد الصلاة بها.
- أو أن يُتخذ مكاناً للصلاة عندها وإن لم يُبْنَ مسجدٌ.
- أو الصلاة على القبور بمعنى السجود عليها.
وفيما تقدم من الأحاديث النهي الأكيد، والتحريم الشديد من اتخاذ القبور مساجد، وبيان أن هذا من فعل اليهود والنصارى، فمن فعله فقد اقتفى أثرهم، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حماية جناب التوحيد.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ القبور مساجد في ثلاثة مواطن:
أولاً: في سائر حياته.
ثانياً: قبل موته بخمس.
ثالثاً: وهو في سياق الموت2.
وبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن شرار الخلق عند الله الذين يبنون المساجد على القبور كما ورد عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهن ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) رواه البخاري (427)، ومسلم (528).
لِمَ تبنى المساجد؟
لمْ تبْنَ المساجد مفاخرةً ليقال: إن فلاناً بنى مسجداً أجمل أو أعظم من مسجد فلان، أو لمجرد الصيت.
المساجد لا تنبى لتكون ذريعة لمحاربة الدين، أو الصد عن سبيل الله، أو إقامة البدع والمحدثات {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}(الجن:18) أي: لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة، فإن المساجد التي هي أعظم محال العبادة مبنية على الإخلاص لله، والخضوع لعظمته، والاستكانة لعزته3.
ولا يبنى المسجد لمضاهاة مسجد قريب منه، فيؤتى بإمام وخطيب من فئة منادَّةٍ لذاك، أو دروسٍ تناقض ذاك، وذاك على هدى واستقامة على السنة، فيكون كمن صدوا عن سبيل الله {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}(التوبة:107)، ويكون شبيهاً بمسجد الضرار.
والمساجد لم تبنَ قط لتكون مجلساً أشبه بالمقهى يتوافد إليه المتحدثون، وإنما بنيت للصلاة والدعاء، وذكر الله وقراءة القرآن، وتعليم الشريعة وإرساء قواعد الدين، وإنشاء الجيل الإسلامي والعالم الرباني قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزرموه، دعوه)) فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن)) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه" رواه مسلم (285).
من يبني المساجد؟:
كلُّ مسلم جدير باستحقاق فضيلة بناء بيتٍ لله تعالى، وعلى كل قادر أن يشارك ويساهم في بناء المسجد ولو باليسير، فله أجره إن شاء الله ولو بحجر واحد، أو مصباح يوقده في بيت الله، أو شيء يحمله يساعد بانيه، أما من ليس على الإسلام فليس أهلاً لبناء المسجد كما قال جل وعلا: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}(التوبة:17-18) أي: ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له، ولهذا قال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فشهد تعالى بالإيمان لعمار المساجد4.
والمصدِّق بوحدانية الله، المخلص له العبادة، الذي يصدق ببعث الله الموتى أحياءً من قبورهم يوم القيامة، ويقيم الصلاة المكتوبة بحدودها، ويؤدِّي الزكاة الواجبة عليه في ماله إلى من أوجبها الله له، ولم يخش إلا الله، ولم يرهب عقوبة شيء على معصيته إياه سوى الله {فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}، فخليقٌ بأولئك الذين هذه صفتهم أن يكونوا عند الله ممن قد هداه الله للحق، وإصابة الصواب5.
فمن كان من قطَّاع الصلاة، ومانعي الزكاة، وأكلة أموال الناس بالباطل، وأكلة السحت والربا، وظلمة العباد؛ فليس أهلاً لبناء بيوت الله تعالى، وأولى من هذا المنظمات التعاونية العلمانية التي لا تدين بالإسلام لو بنت للمسلمين مسجداً بغرض تبيين أنها لا تقف أمام دين أحد.
أيُّ المال أولى لبناء المساجد؟
الأَولى من المال ما كان طيباً كسبُه، يخرجه صاحبه بنية صالحة خالصة يبتغي بذلك وجه الله تعالى ليكون ذلك سبباً لقبوله من الله تعالى فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً... الحديث)) رواه مسلم برقم (1015).
والحمد لله أن شرع في ديننا الأوقاف العامة، والأوقاف الخاصة، وبيت مال المسلمين، وخزينة الدولة، فإن وجدت أوقاف خاصة لبناء مسجد فهي أولى أن تصرف في بنائه من الأوقاف العامة، وإن لم توجد فمن الأوقاف العامة التي حبست لمصالح المسلمين، وخزائن الدولة، وأموال المحسنين، والشرط في ذلك كله أن يكون مالاً حلالاً.
فضل بناء المساجد:
لو لم يكن من فضل بنائها إلا أن بانيها متصدق يقدم عند الله أجراً فيكون له ذخراً يوم القيامة لكفى فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب -؛ وإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فُلوَّه حتى تكون مثل الجبل)) رواه البخاري (1344) واللفظ له، ومسلم (1014).
كيف وقد جاء في فضل بناء المسجد أخص من ذلك فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم: إنكم أكثرتم، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة)) رواه البخاري (450) ومسلم (533)، وفي رواية مسلم: أن عثمان بن عفان أراد بناء المسجد فكره الناس ذلك، فأحبوا أن يدعه على هيئته.
وهذه المثلية ليست على ظاهرها، ولا من كل الوجوه، وإنما يعني أنه بُني له بثوابه بناء أشرف، وأعظم، وأرفع، وكذلك في الرواية الأخرى: ((بنى الله له بيتاً في الجنة)) ولم يسمه مسجداً.
فبناء المسجد فضيلة لا يدركها إلا من زكى من نفسه خصالاً كثيرة يصير بها براً تقياً، وسعى في اجتناب المنكرات، وجلب الحسنات، وأقام الصلوات، وأدى الزكوات {فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}(التوبة:18)؛ ليكون الشرف الذي يناله باني المسجد رفيعاً لا يصل إليه كلُّ أحد إلا بأن يرفع من تقواه، ويعمل ما يحبه الله ويرضاه، فكان بناء المسجد منزلة جعلها الله عز وجل محل تنافس وتسابق إلى الخيرات، وإحدى المحفزات والباعثات على الطاعات، ولعل هذا ما يفهم من الحصر المذكور في قوله تعالى {إَنَّمَا يَعْمُرُ} فمن شاء أن يدخل في ذلك فليعمل.
كيف تبنى المساجد؟
ينبغي أن تكون المساجد وثيقة البناء، متماسكة العمارة؛ كي تطول مدة دوامها، ويجَوَّد أساسها حفراً وتثبيتاً وتدعيماً، وأن يختار لها الحجر القوي، والتربة المتماسكة، والحديد الأجود، وسائر أدوات البناء، كما ينبغي أن يراعى كون بنائها لائقاً بدور العبادة فليس المسجد فندقاً أو مجمعاً حكومياً، فبناء المسجد يحتاج إلى تهيئة لمكان الصلاة بتوسيع مدخله ومساحته، وتهيئته للقبلة، وبعض المساجد لا تراعى فيها هذه الأمور فيجد الداخل ضيقاً في الممر أو في أماكن الصفوف، وربما كانت القبلة إلى جهة الزاوية فيختلط على كثير من الناس.
وقد رغَّبت الشريعة في الصف الأول، وهذا يجعل بعض الأشكال المعمارية مفضلة عند بناء المسجد، فالشكل المستطيل الموازي ضلعه الأكبر للقبلة يمكنه تحقيق صفوف أولى أكثر طولاً، فهي أفضل من التصاميم التي تؤدي إلى حرمان كثير من المصلين من هذا الأجر العظيم.
وقد كانت مساجد المسلمين واضحة المعالم، بسيطة الشكل، لا تكلف فيها، لكن بعض تصاميم المساجد حالياً أغفلت أن المسجد بيت الله، وأنه لا ينبغي أن يُصَمَّم كأي بناء آخر، وخاصة إن كان رمزاً وشعاراً لغير المسلمين كالكنائس، ومعابد اليهود، وصوامع الرهبان.
وكما ينبغي التقليل من التحسينات التي لا تجلب خشوعاً، ولا تعين مصلياً عليه، فليس من المهم توفير الرخام والجرانيت، وصرف الأموال في ذلك، والمبالغة في أدوات وأثاث المسجد قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "كان سقف المسجد من جريد النخل"، وقال أنس رضي الله عنه: "يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلا"6.
كما ينبغي تجنب زخرفة المساجد بالنقوش، وكتابة أسماء الله وأسماء بعض عباده، وآيات من كتابه، وقد قال عمر رضي الله عنه لمن ولاه توسعة المسجد النبوي: "أكِنَّ الناسَ من المطر، وإياك أن تحمِّر أو تصفِّر فتفتن الناسَ"، والأحاديث في مجملها تدل على كراهة السلف الصالح للزخرفة لكونها مخالفة للغرض الذي من أجله بنيت المساجد وهو عبادة الله تعالى، ولا يخفى ما في ذلك من الإسراف، وفيه أيضاً تشبه باليهود والنصارى، كما أن ذلك كله ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أمرت بتشييد المساجد)) قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى"7، قال البغوي في شرح السنة: "التشييد رفع البناء وتطويله، ومنه قوله تعالى: {بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}(النساء:78) وهي التي طول بناؤها يقال شدت الشيء أشيده مثل بعته أبيعه إذا بنيته بالشيد وهو الجص، وشيدته تشييداً طولته ورفعته، وقيل: المراد بالبروج المشيدة المجصصة، قال ابن رسلان: والمشهور في الحديث أن المراد بتشييد المساجد هنا رفع البناء وتطويله كما قال البغوي، وفيه ردٌّ على من حمل قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ}(النور:36) على رفع بنائها وهو الحقيقة، بل المراد أن تعظَّم فلا يذكر فيها الخنا من الأقوال، وتطييبها من الأدناس والأنجاس، ولا ترفع فيها الأصوات. انتهى"8.
وقيل: المعنى أن ترفع حسياً ومعنوياً، فتبنى ويجوَّد بناؤها، لا إسراف ولا خروج عن الحد الشرع، وترفع عن الخنا واللغو والدنس.. "فيدخل في رفعها: بناؤها، وكنسها، وتنظيفها من النجاسة والأذى، وصونها من المجانين والصبيان الذين لا يتحرزون عن النجاسة، وعن الكافر، وأن تصان عن اللغو فيها، ورفع الأصوات بغير ذكر الله"9.
قال ابن رسلان: "وهذا الحديث فيه معجزة ظاهرة لإخباره صلى الله عليه وآله وسلم عما سيقع بعده، فإن تزويق المساجد، والمباهاة بزخرفتها كثر من الملوك والأمراء في هذا الزمان بالقاهرة، والشام، وبيت المقدس بأخذهم أموال الناس ظلماً، وعمارتهم بها المدارس على شكل بديع، نسأل الله السلامة والعافية"10.
ومما ينبغي أن يراعى وجود مدخل مستقل للنساء بعيداً عن الاختلاط، والمضايقات، والفتنة.
ومن الأمور التي تراعى عند بناء المساجد: ألا تكون دورات المياه داخلة في حدود المصلى أو المسجد، وألا تكون مستقبلة للقبلة أو مستدبرة لها فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا)) متفق عليه، وعلى تقدير جواز ذلك في البنيان فالأولى عدمه خروجاً من الخلاف، ولأنه الأفضل بلا نزاع.
ويراعى أن تكون الحمامات مستورة، ومغلقة إغلاقاً جيداً، وأن تكون واسعة بحيث لا يضطر الشخص إلى التبول واقفاً، حتى يكون الإنسان أبعد عن إصابة بدنه وملابسه بالنجاسة.
ويراعى أيضاً في بناء المسجد التأكد من توجيه المسجد إلى جهة القبلة: فهذا من أهم المعايير التي يجب مراعاتها.
والأفضل أن يكون جدار القبلة مستقيماً، فلا يكون متعرجاً، وبعض العلماء قد كره الصلاة في مسجد تختلف فيه الصفوف، ولا تتساوى فيه بسبب القبلة، ويتحرى في المسجد دقة القبلة وموافقتها، وتكفي للبعيد الجهة، لا المعاينة للكعبة لصعوبة ذلك، ولكن لو قُدر ووجد انحراف عن عين الكعبة فلا يكون انحرافاً بالغاً.
وأيضاً ينبغي التقليل من عدد السواري والأعمدة، فمن الثابت أن الصلاة في الصف الموصول أفضل من الصلاة في الصف المقطوع، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقيمت الصلاة يرص الصفوف، ويسد الفرجات، ويحثهم بأن يصفوا كما تصف الملائكة عند الله تبارك وتعالى قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى: "الصف بين السواري جائز إذا ضاق المسجد، حكاه بعض العلماء إجماعاً، وأما عند السعة ففيه خلاف، والصحيح: أنه منهي عنه؛ لأنه يؤدي إلى انقطاع الصف لا سيما مع عرض السارية"11، ويتجنب تضخيم الأعمدة، وتكبير حجمها بلا حاجة، حتى لا يؤدي إلى قطع الصفوف، وعدم انتظامها, خصوصا وأن التقنيات الحديثة قد أصبحت تتيح ذلك.
والحمد لله أولاً وآخراً.