المواضيع الأشد خلافا في مجال الطاقة
د. أنس بن فيصل الحجي
الأمور الخلافية في مجال الطاقة، كما في مجالات أخرى، عديدة، حيث يكون هناك رأيان متضادان أو أكثر. وقد أثبتت التجربة أن الحوار بين الفريقين عقيم ومضيعة للوقت. فلا يمكن للحوار في هذه الحالة أن يأتي بأي نتيجة، خاصة أن هذه الآراء تحولت إلى «دين» يؤمن به من يقتنع بها إيمانا كاملا لا يقبل الشك، وبالتالي فليس هناك مجال للحوار، أو مناقشة الأدلة. ولم أجد حتى اليوم متخصصاً يغير موقفه وينحاز للجانب الآخر، من كلا الطرفين. من هذه الأمور حجم الاحتياطيات، وموضوع ذروة إنتاج النفط، ومعدلات النضوب، ودور التكنولوجيا في زيادة الإنتاج، ودور المضاربين في رفع أسعار النفط، وتسعير النفط بالدولار (وربط الريال بالدولار)، ومدى جدوى الطاقة الجديدة والمتجددة وآثارها البيئية. لهذا يخطئ من يكتب في هذه الأمور ظناً أنه يردّ على الطرف الآخر، أو أنه سيقنع الطرف الآخر. ويبدو أن هناك فائدتين للكتابة في هذه المواضيع، أولاها «دعم» المؤيدين وإشعارهم بأنهم ليسوا وحيدين في آرائهم، وثانيها محاولة كسب «متعاطفين» جدد ليس لديهم معرفة بالموضوع حالياً. وهناك فائدة ثالثة ستذكر في نهاية المقال.
وقد أثبتت التجربة أنه عند الخوض في المواضيع المذكورة أعلاه، فإن هناك مشكلة كبيرة تواجه من يستخدم المنطق والبيانات لإثبات وجهة نظرهم إذا اعتمد الطرف الآخر على العواطف والتخويف. ليس هناك وزن للمنطق والأرقام أمام «الشعور بالخوف»، لهذا خسرت شركة أرامكو السعودية أغلب معاركها الإعلامية في الغرب أمام الذين يشككون في احتياطياتها وإمكانية استمرارها في الإنتاج بكميات عالية. مسؤولو «أرامكو» يملكون البيانات والحقائق والمنطق، ويؤيدهم تاريخ طويل، ولكن الطرف الآخر يعتمد على «التخويف» الممزوج بـ «الشك»، لذلك فإن النتيجة محسومة سلفا لصالح الطرف الآخر. الأمر نفسه ينطبق على الطاقة المتجددة، وبشكل خاص طاقة الرياح والطاقة الشمسية. فكل الأدلة والبيانات تشير إلى أن هذين المصدرين سيسدان بعض احتياجات الطاقة، ولكنهما لا يمكن أن يحلا مشكلة الطاقة في العالم، ولكن تأجيج العواطف لعب دورا كبيرا في نمو هذين المصدرين. فقد تم الربط بين النفط ولإرهاب من جهة، وتم الربط بين النفط والاحتباس الحراري من جهة أخرى، وبالتالي فإن من يعارض الطاقة المتجددة عدو للبلد، وعدو للعالم أجمع! الحقيقة التي لا يمكن أن تخفى أنه لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يتم توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح دون دعم حكومي. والحقيقة الأخرى أن تكاليفهما عالية مقارنة بالمصادر الأخرى. إن توافر الغاز بكميات هائلة، خاصة من غاز السجيل، والذي هو أيضاً محل خلاف، سيجعل الدعم الحكومي لمشاريع توليد الكهرباء من الطاقة الشمسسية وطاقة الرياح يستمر لعقود طويلة.
بعض المواضيع الخلافية
1- بلوغ إنتاج النفط العالمي لذروته: هناك فريقان، فريق يرى أن إنتاج النفط بلغ ذروته أو سيبلغها قريبا، بعدها سيبدأ إنتاج النفط بالانخفاض حتى النضوب. ويستدل أصحاب هذا الرأي بأمور عدة منها أنه تم اكتشاف كل الحقول الكبيرة في العالم ولم يبق إلا حقول صغيرة، وأن الطلب على النفط يستمر في الارتفاع. ويرى هؤلاء أن أغلب الزيادات في احتياطيات النفط تاريخيا كانت على الورق فقط، خاصة في أواخر الثمانينيات. وتوسع بعض الجيولوجيين في هذا الموضوع حيث بدأوا يكتبون عن الآثار الاقتصادية والسياسية لهذه التطورات. تاريخيا، لم يعتقد أصحاب هذه النظرية بالدور الاقتصادي والتكنولوجيا في زيادة الاحتياطيات، إلا أن بعضهم بدأ يقتنع بها أخيراً، ولكن دون تغيير المحصلة النهائية وهي بلوغ الإنتاج لذروته. الطرف الآخر يعتقدون بذروة إنتاج النفط ولكن بعد عقود من الآن، ويرون أن هناك مناطق لم تكتشف بعد، وأن للتكنولوجيا وارتفاع أسعار النفط دورا كبيرا في نمو احتياطيات النفط. كما يرون أن زيادة الاحتياطيات عبر الزمن ليست على الورق، وإنما نتيجة التطور التكنولوجي والمعرفي.
2- دور المضاربين في رفع أسعار النفط: هذا موضوع خلافي لا فائدة من الحوار فيه بين الطرفين. وكما في الموضوع السابق، إذا أيدت الأدلة طرفا من الأطراف، شكك الطرف الآخر في البيانات ومصادرها. ومحور الخلاف أن البعض يرى أن ارتفاع الأسعار منذ عام 2006 وحتى منتصف عام 2008 سببه المضاربون، وليس أساسيات السوق. بينما يرى الطرف الآخر أنه ليس هناك دليل على ذلك، وأن الطرف الأول فَهِمَ البيانات بشكل خاطئ، كما يستدلون ببيانات الإنتاج ليثبتوا أن أساسيات السوق والتدخل الحكومي كان وراء ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات قياسية.
3- تسعير النفط بالدولار: هذا أيضا من المواضيع «الخلافية» و«العاطفية» التي لا يمكن لأحد الطرفين أن يقنع الآخر برأيه. فهناك من يرى أنه يجب تسعير النفط بعملة غير الدولار أو بسلة من العملات، بينما يرى آخرون أن أفضل حل للدول النفطية هو الاستمرار بسياسة التسعير الحالية.
4- الطاقة المتجددة صديقة للبيئة: هناك من يرى أنها صديقة للبيئة، وهناك من يرى أنها لا تختلف عن النفط والغاز في تأثيرها البيئي، كما يرون أن بعضها أسوأ بيئيا من النفط. وسبب الخلاف هو طريقة حساب التأثير البيئي وإذا ما كان يشمل دورة كاملة أو جزءا منها. مثلا، هل يحسب التأثير البيئي لعنفات الرياح بحساب أثر دوران العنفة، أم أنه يشمل عملية التنقيب عن معدن الحديد، وعملية تحويله إلى فولاذ، ونقله وتصنيع العنفات، ثم نقلها إلى مكان البرج؟
أثر هذا الخلاف
قد يظن البعض أن ما سبق هو مجرد خلاف في الرأي، وقد يرى آخرون أن «الجدل» في هذه الأمور هو ترف فكري. ولكن يمكن للقارئ أن يتصور لو أصبح أصحاب رأي من هذه الآراء قادة العالم، والسياسات التي ستنتج عن ذلك.
خلاصة القول: ما سميته سابقا على أنه «خلاف»، ما هو في الحقيقة إلا حرب أفكار للسيطرة على عقول صانعي القرار، وصانعو القرار، هم صانعو المستقبل بكل ما فيه من أفراح وأتراح. إنها في النهاية، حرب.. حرب أفكار، فيها معارك متعددة، وصولات كثيرة، ينتصر فيها فريق تارة، وينتصر الفريق الآخر تارة أخرى، والتاريخ سيحسم الأمر يوما ما، ولكن «المحاربون» لن يروا هذا اليوم.. لأنهم ماتوا منذ عقود، وربما قرون.