بين الرواية والسيرة الذاتية
د. سلطان سعد القحطاني
يشكل التماس بين الفنين المتشابهين في المظهر، المختلفين في الجوهر(السيرة والرواية)، إشكالية معرفية سببها التشابه الظاهري والتداخل في معنى المسمى غير المصطلحي، فكل منهما ينضوي تحت المسمى المشتق من الفعل العربي، فيما يعني القص والتتبع، في الثقافة العربية، وسبب التداخل الذي جعل هذين النوعين من فن القص- بشكل عام - متشابهين، هو القص العربي المنقول من الماضي بالرواية، المنحدرة من الفعل العربي (روى) وفاعلها( راوٍ)، والراوي في أساس الفعل الناقل للماء، والرواية في المصطلح العربي القديم تعني النقل من الماضي، وتعتمد في الكثير من الأحيان على مقتطفات من سير الأبطال والمشاهير من طبقات المجتمع، ورواية الحدث الرئيس والذكريات، وما يصاحبها من الأحداث، لكنها تختلف في المصطلح العالمي الحديث للرواية باعتبارها فناً قائماً بذاته، اصطلح عليه ((Novel في مقابل القصة الطويلة أو الحكاية أو القصة القصيرة، وكل هذه المصطلحات تحت مسمى القصة بالمفهوم العام، لكن الرواية تختلف عن بقية أنواع القص (Fiction) تعنى بربط الحدث الماضي في تصوير مستقبلي. ويستعين الروائي بالماضي في بناء روائي له مقومات تختلف عن مقومات السيرة وبقية الفنون القولية، في نقل الحدث وتوظيفه، التوظيف المناسب، في رؤيا استشرافية لما يتخيله الروائي بناءً على معطيات الحاضر؛ الأول، أو رواية الأساطير مجردة من مضمونها الفلسفي الرمزي، وللرواية لغة معبرة عن مضامين القص الفني العام والسرد بأنواعه المتعددة، كالسرد التاريخي، والخبر، والتقرير، والخطابة، وغيرها..؛ ويشكل التماس بين الرواية والسيرة رافداً من روافد الرواية، باجتزاء جزء من السيرة يوظف في صلب الرواية على هيئة لقطات ذهنية، بعيدة عن التصوير الفوتوغرافي، مثل اللقطة التاريخية، فيما يتعلق بالزمن، أو الجغرافية، فيما يتعلق بالمكان، أو الرمز الأسطوري العارض ضمن السياق الروائي؛ أما أن توظف السيرة بكاملها لتكون رواية فهذا هو المستحيل، لأن السيرة ليست موضوعاً صغيراً يمكن أن ترفد به الرواية، لكنها موضوع له حدوده ومقوماته، لا يمكن أن يكون رواية، كما أن الرواية لا يمكن أن تكون سيرة، مهما كان الأمر.
وهناك الكثير من الخلط بين هذه الأجناس الأدبية، عند الكثير من الدارسين المحدثين، الذين يعتبرون الحدود بين هذه الأجناس قد انعدمت تماماً، فالرواية في مذهبهم سيرة، والسيرة رواية، والقصيدة قصة، والقصة قصيدة، ونستطيع أن نحدد السيرة، التي عاث الباحثون في تعريفها، وذهبوا بها مذاهب شتى، وخلطوا بين المتشابهات من أجزائها وروافدها، مثل المذكرات والذكريات واليوميات، لكن أبسط تعريف لها هو (تاريخ حياة شخص منذ الولادة حتى كتابتها)، والرواية ليست تاريخاً بالمصطلح المعروف، لكنها دليل على تاريخ ما في حقبة ما؛ وحتى الرواية التي سميت بالتاريخية في أوروبا منذ مطلع القرن التاسع عشر، وكان أولها رواية (إفان هوIvan hoe - ) للكاتب الاسكوتلاندي (السير ولتر سكوت Walter Scott) 1771-1832، التي كتبها بالانجليزية، اعتبرها النقاد رواية تاريخية، لكنها لم تكن ترصد الأحداث التاريخية، لكن بناءها أقرب إلى التاريخ، كما هو الحال في الرواية السياسية، ورواية الخيال العلمي. ومع وجود البطل في كل من الفنين في صورة ظاهرية، نجد خلو السيرة من الشخوص الفاعلين، أضف إلى ذلك أن السيرة أفقية الامتداد الزمني، بينما الرواية رأسية، في شكل هرمي متصاعد من البداية نازل إلى النهاية، والذي خدع الكثير من النقاد والدارسين، وجود الزمان والمكان، ولم يلاحظوا الاختلاف في الحدود والمفاهيم، للزمان والمكان، وهذا هو الذي جعل الكثير من النقاد غير المتخصصين في فن الرواية يظنون أن العناصر المشتركة المكونة للنصين كافية لتكوين رواية، لأنها كافية لتكوين سيرة ذاتية، أو رواية سيرية، أو سيرة روائية!!، إلا أن مكان الرواية يختلف عن مكان السيرة، فمكان السيرة معروف محدد، ومكان الرواية خيالي موظف، وزمان الرواية تقريبي، وزمان السيرة محدد، وغالبا ما يكون مثبتاً بتواريخ، تقترب من المذكرات اليومية، والذكريات، وأدب الرحلات، وجولات الرحالة والدبلوماسيين، وينطبق على هذه الأنواع مصطلح البكاريسكية، (picaresque) ، وإذا كان مجتزأ السيرة من روافد الرواية، فإن السيرة لا يمكن أن تكون رواية حديثة بالمعنى المتعارف عليه في عالم الفن الأدبي الحديث، ويمكن أن تسمى قصة طويلة؛ فالسيرة ليست بهذه السهولة والتواضع الشديد لتكون مادة كاملة لرواية ما، ولا الرواية بهذه السهولة التي يتخيلها البعض على أن تكون سيرة؛ والذين يرون في دمج هذه الفنون في بعضها يقضون عليها من حيث لا يعلمون، ويفقدون كل فن ميزاته وقوته، بل يسمون الأشياء بغير أسمائها، وفي هذه الحالة تضيع الفنون في بعضها وتفقد ذوقها واستقلاليتها، وترابطها، بدلا من أن يقوي من أواصرها ويشد عضدها، في تكوين منظومة أدبية تمكن كل من أعطي موهبة في واحدة منها من الإبداع، فيضيع بالتالي المبدع في هذا المحيط المتلاطم الأمواج، ولا إبداع بعد ذلك.
السيرة
* عندما ظهرت السيرة، بمسماها العام، أخذت الأمم في تعريفها بما تعارفوا عليه في ثقافاتهم المتعددة، فالعرب عرفوها على أنها ما يمكن أن يتحدث به الإنسان عن نفسه أو عن غيره، وأطلقوا عليها (سيرة) دون تحديد ماهيتها، ذاتية أو غير ذاتية، ولم يثبت تعريف معين عند العرب، ولا عند غيرهم/ ما عدا التعريف بشخص، أو جواب على سؤال فحواه: من أنت؟، وتعرفوا على كلمة مولّدة عن الآرامية، تعني ترجمة فلان، يعني سيرة فلان، وهذا خطأ، فالترجمة لا تعني السيرة، إنها تعريف موجز، لا يسمن ولا يغني من جوع، وقد اقتربت الدراسات الحديثة من التحديد لمعنى السيرة التي كانت تشكل لبساً على المتلقين، فحددت السيرة غير الذاتية بمصطلح ((Biography والسيرة الذاتية autobiographyِ) والرواية (Novel) والقصة (Narrative) للتفريق بين الفنون القولية النثرية، لكن النقد العربي ما زال لم يدرك هذه التفريعات المتكاملة في بناء الفن القصصي، وقد حاولت في هذه الدراسة أن أحدد كل فن بحدوده العلمية، في زمن التخصصات العلمية والفنية، وأن نسمي كل شيء باسمه، ونذكر تعالقه بالفن الثاني، لكن ليس على حساب الآخر، وأن لا نأخذ العناوين الظاهرية في خط دراساتنا دون تحليل المضامين في سياقات معرفية، والتفريعات من المصطلح الواحد قد تخدع في حين من الأحيان، فالقصة على سبيل المثال تأخذ تفريعات وأبعادا متعددة، لا بد من التروي والنظر في المضامين قبل الشروع في الأحكام، فالأسماء المجردة من السياق لا تعطي الفن مصطلحه الخاص به.
بين الرواية والقصة والسيرة
* إن الصفات إن لم توظف التوظيف العلمي الصحيح تنقلب في غالب الأحيان على نفسها، فالرواية ثلاثية (كاتب وراو وبطل) والقصة الطويلة ثنائية (كاتب، وبطل) بينما تقوم السيرة على شخصية أحادية، تختزل الثلاثة في واحد، والرواية تستوعب الفنون والعلوم في قالب واحد يصوغها الروائي بالخيال الممزوج بالحقائق، بينما الحقائق مكشوفة ومجردة في السيرة، والشخصيات متنامية في الرواية الفنية، ولكنها في السيرة موظفة توظيفاً مؤقتاً، سرعان ما تحترق بنهاية دورها، فهي ذات أدوار محدودة، والزمن في الرواية متصاعد باتجاه قمة الحدث (العقدة) بينما الزمن في السيرة أفقي مستمر، والحدث في الرواية عام قابل لتوليد أحداث مرادفة مساعدة للحدث الرئيس، بينما الحدث في السيرة خاص بصاحبه، لا يختلف عن الحكاية الشعبية والمواقف اليومية، والرمز والفلسفة والأسطورة قابلة للتطور في الرواية، ولا وجود لها في السيرة، وإن وجدت فليس لها توظيف؛ لكن هذه الفنون النثرية لا يستغني بعضها عن بعض، مع عدم تطابقها، فالرواية تأخذ من كل شيء، لكنها لا تعطي شيئا، فلا يمكن أن تكون الرواية سيرة ذاتية، ولا السيرة يمكن أن تكون رواية، وقد حاولت تبرير هذه الآراء بالمفهوم العلمي، ولا نخفي أن هذه الفنون الأدبية مهمة في حياتنا الأدبية، وقد اجتهد النقاد في تعريفها وفصل كل منها فصلاً ليس بالكلي، لكن ليكون لكل منها شخصيته المميزة، ولذلك يجب علينا أن نحافظ عليها بتعزيزها وليس بخلطها، وجعلها تظهر في صور باهتة، مؤكدا أن الذي نسب للكتاب على أنه سيرة ذاتية، ليس من السيرة في شيء.