سلام إبراهيم
أطفأتُ النور. أحسسته يتلمس كتفي ويهبط إلى حضني. لففتُ ذاعي حوله، وأشياء غرفته الصغيرة تشبحت في الظلام، خزانة الملابس، السرير الخشبي العالي، الشباك المائل، وكأنه في السقف بزجاجته الرائقة، الفاضحة ظلمة سماء لا نجوم ولا قمر فيها. ربت على خدي بأصابعه الغضة، وقال بصوت أسكره التعب والنعاس:
ـ بابا.. قصة وردة بنت الجيران.
ابتدأت بهزهزته. أحرك ساقي اليمنى المتعشقة مع أختها، حيث يسترخي في أرجوحته الليلية، من غور سماء النافذة، من زوايا الغرفة، من الخشب، ودفء الجسد الطفلي، من صمت الليل البهيم هبت علي روائح قديمة، روائح ظلال جدران، روائح أماس، روائح بشر، روائح دار أهلي القديم بغرفته الوحيدة وحوشه الفسيح، روائح فريدة تميز المدن الواقعة على مشارف الصحراء. أخذني الهبوب وخدرني موقظاً الأمكنة من سباتها، فوجدتُ نفسي ألجُ دارنا القديم، وأسمع صوت أمي وكأنه قادم من أعماق بئر مهجورة، يطرق أطراف نومي جوار أخوتي التسعة المصفوفين على بساط طويل مفروش وسط الحوش قدام سرير والديّ الخشبي العتيق بأعمدته المعدنية الأربعة الطويلة:
ـ انهض يمه.. انهض.. أخوتك راح يفزون.
أجلس متربعاً وسط البساط، أفرك عيني المثقلتين بالنعاس، وقامة أمي المنحنية ملفوفة بالضباب والعتمة، أتلمس أثر جسدي على فراشي الدافئ.
ـ انهض وليدي... توكل على الله.
ـ أي.. أي.. يوميه آني!!!.
أقولها بانزعاج، قبل النهوض والخوض في أحشاء السحر ورذاذ الفجر المتناثر في الأفق البعيد. أقطع المدخل المعتم. أفتح الباب الخشبي، وأنحدر بمجرى نسيم الشارع العريض مثل حالم، قاصداً الفرن الداوي في مدخله، ألتحم في الزحمة والصراخ والانتظار الذي يطول غالباً حتى طلوع الشمس، لأعود بالعشرين رغيفاً التي نشتريها بالنسيئة.
ذلك التغبيش اليومي كان مملاً، رتيباً، ثقيلاً، ولكن في سحر من تلك الأسحار الصيفية البعيدة، في اختلاط غبشة الضوء بنعاسي، في كسل خطوي المتعاجز من ذلك الواجب الثقيل، وفيما كنت منسرحاً بمجرى النسيم الخفيف، أنصتُ لترنيم الأدعية السجادية الهابطة من مكبرات الصوت المعلقة بسدرة جارنا (محمد) نائب الضابط الورع، وقبل أن أستدير متتبعاً دوي الفرن الأليف. رأيت جارتنا تظهر من جوف بابهم المفتوح.. صبية في عمري هي الوحيدة التي لا ترتدي العباءة في محلتنا، وتخطو صوب الفرن. لم يتسن لي رؤيتها عن قرب فقبل ثلاثة أيام فقط أقاموا في البيت قبالتنا. جرفتني الظلال وما يحكيه رفاقي الصبيان حول جمالها عن مساري. فبدلاً من التوجه صوب الفرن الكائن في جهتنا، قطعتُ الشارع باتجاهها، دنوتُ من عمود النور الذي لا بد أن تمر بجواره مما يتيح لي رؤيتها بوضوح، لكن ما أن تقلصت المسافة بيننا حتى خذلتني ساقاي، فتلكأتُ على حافة رشيش الضوء الناري المنسكب من المصباح المتدلي لحظة هبوطها على مجرى الضوء ملاحقة بنثار فضة الانبلاج الوشيك، في مزيج الأضواء ذاك، تأملتها مسحوراً، مرهوباً.
ـ أي يا ولدي، أطفر غبشة من الفراش على صوت جدتك الله يرحمها، أخاف تكون سبقتني للفرن، أهرول بظلمة المجاز، أفتح الباب، وأنتظر لما تطلع أمل أم العيون الخضر، لما أشوفها.. أتحرك إلى وسط الشارع، أصبحها بالخير، فتدير وجهها مستحية، فأقول: أنا جارك، فتلتفت إلي وتقول: شتريد؟ فأحتار يا صلوحي!!! فأنا أريد أن أتعرف عليها ونلعب سويا، ارتبكت، لكن تذكرت فيلم شفته بالسينما عن شاب يهدي لصديقته وردة، فتفرح كثيراً، فقلت: سأهديك وردة. ابتسمت وابتعدت عني، وضاعت بين عباءات النسوان المزدحمات حول شباك الفرن، ما تدري كم فرحتْ من بسمتها وقلت في نفسي: لازم أخلقلهه وردة بكرى.
من رهبتي الماحقة حدقتها وهي في مجرى الضوء، مبهوراً بالقامة الرامحة، بالعينين الخضراوين الواسعتين الهدباوين الناعستين، بجرة الأنف المرتفعة بشموخ، بالوجنتين المشتعلتين بنور المصباح ونور البشرة ونور الفجر المنفلق، بتناغم القسمات المحاطة بظلال العتمة. لفحني عطرها فاختضضت لحظة مروقها جواري، أصبتُ بالخرس والذهول، وحدهما عيناي لاحقتا خطوها وتكوين جسدها من الخلف الضائق بالثوب المنزلي الخفيف المطبع بالورد، والمصطبغ بدفق الفجر. اندست بين أجساد النسوة، ضاعت وضيعت قلبي.. أي كلام يستطيعه صبي عاشق؟. من أين يأتيه؟ والمشاعر في بكارتها الحسية بعد؟. وفيما أنا أسير سادراً بين أحشاء الفجر وبقايا السحر، انبعثت من ظلال الألوان القاتمة تلك البنت الجميلة التي ارتمت متعلقة بعنق حبيبها الفارع ماسكة الوردة الحمراء التي أهداها لها، ليغيبا في قبلة طويلة، أشعرتني بالنشوة في ظلام صالة سينما الجمهورية، وسط صراخ الأولاد على إبراهيم الأعور الذي قطع اللقطة ولم يذهب بالأمر بعيداً. فكرتُ بالوردة وأنا أحشر جسدي بالحشد الملتم حول شباك الرجال المفصول عن شباك النسوة بباب الفرن الحديدي المسدود نائياً عن اللغط والصياح، متخيلاً كيف سأسلمها الوردة في غبشة الصباح.
طوال ذلك النهار وضعني الهاجس في حيرة، فمن أين أجلب لها وردة، ومدينتي لا محلات بيع ورد فيها، والحدائق العامة لا تصمد إزاء نهم الصبيان والكبار للورد، وبيوت الأثرياء محروسة بالكلاب والأسيجة العالية، لم يبق أمامي سوى السرقة، فكيف أرتب سرد القصة لصلاح؟ هل أخبره أن الديوانية وقتها لا يوجد فيها محل ورد؟ هل أخبره أن الناس فيها عندما يتزاورون أو يعيدون مريضاً في المستشفى لا يحملون له ورداً بل عصيراً وبسكويتاً وحلوى، هو المولود وسط الورود في (Roskilde) الدانماركية ومحلات وردها الذي نشتريه باقات وأصصاً، نزين به ناصيات النوافذ وزوايا الغرف، ونحمله كهدايا للأصدقاء.
أبرك في شحوب العتمة، أنصت لإيقاع الهزهزة، لانتظام أنفاسه الموحية باستغراقه في النوم. أكف عن السرد، فينبض صوته خافتاً من قاع النعاس:
ـ كمّل يا بابا.. كمل القصة.
ـ ذهبتُ إلى جدتك وقلت لها: اعطيني فلوس، قلت: أريد أشتري وردة! تبسمت وقالت: أنت مخبل، نشتري الخبز بالدين، وإنت تريد تشتري ورد. رح إلعب يا وليدي... رح. طلعت حزين من البيت، وبالمدينة دخلت دكان ورد، درت بين الجوري والرازقي والياسمين والقرنفل. تحسرت وجمدت مقابل وردة جورية حمراء فسمعت من ورائي: تفضل ابني شتطلب؟ التفتت شفت صاحب المحل فقلت: أريد جورية عمي فسألني: عندك فلوس؟ قلت: لا. فطردني. غادرت الدكان وأنا ممرود، مريت على كل الحدائق ما عثرت على وردة وحدة. رجعت وقت العصر لشارعنا، انعزلت عن أصدقائي وجلست على التراب جوة آخر عمود ضوة مطفي بالشارع. اقترب مني عزيز صديقي. سألني، فأخبرته بالقصة، همس بأذني حتى ما يسمعون الصبيان: اسمع لما تغيب الشمس، روح لبستان الرمان، ورة حقول الحنطة، وقت الغروب، بعد ما يرجع الفلاح لبيته، به ورد جوري ألوان، اقطع واحدة وارجع بسرعة قبل الظلام حتى ما تقطع دربك الذئاب.
لمستُ حائط الطين الواطئ في اختلاط الغروب بغبشية المساء، لمسته واجف القلب، ورميتُ بصري في البستان، لا نأمة ولا حركة. عبرته منزلقاً على غضاضة الأعشاب، وبركتُ متطلعاً في السكون، في كثافة أشجار الرمان، في مسالك البستان المعتمة. أتوتر من خشخشة قريبة، رفة جنح طائر، حفيف أغصان، وأصداء ضجيج المدينة المتخافت أسمعه وكأنه قادم من عالم آخر. تماسكتُ، وانسللت بين قامات الأشجار المحيطة بألواح الورد. أتوقف كل خمس خطوات لأرهف السمع، مخلوساً مما يخبئه صمت وعتمة البستان، إلى أن وقعتُ على لوح الجوري الأحمر، فمددت يدي وأحطتُ بأصابعي سويق وردة، كدت ألويه، لكنني جفلت وأفلته مرتبكاً من خشخشة أتت من أكمة تقطع طريق عودتي. تجمدت مبحلقاً بالرجل الطالع من كثافتها، المتجه صوبي. حل الرعب مفاصلي، ووجدت من غير المجدي إطلاق ساقي الواهنتين إلى عمق البستان المجهول، وفي هذا الظلام. تجمعت حول نفسي متوتراً أقصى التوتر. ارتددت خطوتين إلى الخلف، فسمعته يناديني باسمي، ويعيد النداء. ارتخيت قليلاً وتطلعت نحوه. كان ابن محلتنا عبد الحسين داخل الملقب بالناحل طالب آخر سنة ثانوي، الودود الطيب.
ـ بابا.. بابا.
أيقظني صوته السكران، وأعادني من عتمة غروب البستان، وروائح الجوري والطين ووجه عبد الحسين داخل الناحل ببسمته الشاحبة المحفورة رغم محق الأيام، أيقظ صمتي تحت سماء ليل اسكندنافيا الرصاصية الدانية، المرئية خلف زجاج النافذة المائلة. فحدبت على قسماته الناعسة المقاومة بعناء سطوة النوم، وكلماته الممطوطة المنهكة:
ـ كمل بابا.. كمل.
ـ أين وصلنا؟.
ـ بابا لما ردت تروح للبستان.
ـ لما رجعت الشمس لبيتها.. صار المغرب، فرحت وحدي للبستان، طفرت الحايط الناصي، ومشيت للوح الورد، ردت أقطع وحدة فسمعت الوردة تقول: لماذا تقطعني؟ ارتبكت وايدي رجفت والوردة كملت: أنا مثل البشر.. مثلك، فلماذا تريد قتلي؟ حزنت يا ولدي وما عرفت أجاوب، ثم فكرت أن أخبرها بالسبب فقلت: أريدك هدية لجارتنا الصبية أمل أم عيون الخضر، حتى تصير صديقتي. ضحكت الوردة وقالت: إذا من أجل الحب اخذني. قطعتها وانتبهت للدنيا فوجدتها ظلمة حندس فخفت من الذئاب اللي طلعت وقطعت الطريق.
في غمرة ظلام الغرفة الباهت شممتُ رائحة طين البستان المسقي، وأنا أسمع انتظام أنفاس ولدي الساكن في حضني المهتز. تخافت صوتي. أصبح همساً شديد الخفوت، ثم صمتاً أخذني إلى غروب البستان وعبد الحسين داخل الناحل، التلميذ النجيب، الواقف على بعد خطوات بدشداشته الزرقاء زرقة سماوية، وبشرته السمراء الداكنة في ضوء أول المساء، وصوته المريب، السائل عما أفعل في البستان، فأخبرته بوجل عن رغبتي بقطف جورية واحدة، والرعشة التي ألمت بنبرته ترن في أنحاء نفسي مقطوعة بازدراد لعابه وسط السؤال، رغم أنني كنت ابن الاثنتي عشر لكنني حدستُ معنى الرعشة وارتباكه المفضوح، وتذكرت قصص محلتنا المهموسة في فيء الجدران، وفي ليل السهر تحت مصابيح الأعمدة العالية، عن أسرار الجسد وهول الحرمان، أمعنتُ في انكماشي، ولخصتُ حالي متراجعاً خطوتين، مفزوعاً من بريق العينين الصغيرتين غير المستقرتين. أتتبع ساعده الهاوي بين الفينة والأخرى إلى وسطه الذي سرعان ما تدببتْ زرقته السماوية الشفافة بسيفه المسلول، المقاوم بعناد الكف الناحلة، الحائرة، الدامغة قيامه.. دون جدوى. أمعنتُ في الرجوع، فانطمست قدماي برخاوة طين اللوح، والناحل يقول:
ـ لا تخف.. لا تخف.
أتذكر صوته بوضوح رغم مرور واحد وثلاثين عاماً، أتذكره في ليونة فضة ليل الشمال، في الصمت وتعب الأحوال، مخضلاً بالرغبة الماحقة، ورعبي في صمت وعتمة البستان الطالعة من الزوايا، من كثافة الأكمات، من احتشاد أشجار الرمان المحيطة بوقفتنا بين ألواح الورد الجوري:
ـ لا.. ما خايف.
قلت بجزع مذعور متظاهراً بالشجاعة عله يرتدع قليلاً، ريثما يتسنى لي إيجاد مخرج من ورطة الجوري.
ـ تعال.. تعال.. يا.. لا تخف.
وأشار نحو أكمة قريبة قائلاً:
ـ خلف تلك.. ستجد ورداً أجمل وأطيب رائحة من الجوري.
ـ ....
ـ لم تتراجع ألا تعرفني؟.
ـ ما بي شيء..لا..لا.. لا ما أريد من ذاك الجوري.. ما أريد.
وأسرعتُ بقطف أقرب جورية، استكانت براحتي المكورة وأصابعها المتشنجة، المنتفضة حول سويقها الغض المرتعش.
ـ لماذا.. تسكت يا بابا؟.
أنقذني هَمسهُ من وحشة البستان وهيكل الناحل، من قدمي المطينتين وموج الرعشة المتلاطمة بين ضلوعي، من رعبي المائج بعبق الجوري، ووضعني في تشتت حالي بين مخيلة القص وترتيب السرد، وإلحاح الذكرى. فسألته:
ـ بابا.. وين وصلنه؟.
ـ لما شفت الليل نازل وتذكرت الذئاب.
ـ شفت الليل أسود.. أسود مثل الفحمة، وسمعت الذئاب تعوي عوووووو عوووووو. رجفت وختلت جوة شجرة الرمان وبكيت أنا والوردة بسكوت. وبعد قليل سمعنا بلبل يسأل: من يبكي؟ ويجاوب حاله. هذا يمكن عاشق بنت الجيران.. خليني أساعده. أنا ما اهتميت يا ولدي، فكيف يساعدني وهو صغير الحجم، لكن سمعت رفة جناحه بالظلمة، بعد قليل شفت فد شيء أسود ضخم يهبط من السماء، طلع نسر. زاد خوفي، لكن سمعته يقول: لو كنت سارق ورد فقط كنت ما ساعدتك، لكن أنت عاشق، تعال اصعد أنت والوردة، توسط ظهري.
أحسست بجسده ليناً في حضني، هامداً، فخافت صوتي... إلى أن سكت، فتعالت أنفاسه منتظمة. تهيأت لحمله إلى السرير. انتصب ما أن تزحزحت قائماً بجذعه الأعلى وهمس لصق قسماتي فلفحتني أنفاسه الحارة:
ـ صعدت أنت والوردة؟.
ـ طبعاً بابا... طبعاً.
همست مثل همسه فلان ملقياً جسده الراخي إلى حضني وذراعي المبسوطة وسادة وقال:
ـ وبعدين؟.
ـ طار بنا وشق الظلام. وحط بنا طرف شارعنا الخالي، فهرولت للبيت، ومثل ما توقعت كانت جدتك تنتظرني وراء الباب. دخلتني وشاورتني: يا مسخم، يا ملطم، وين كنت بهذا الليل؟ بكرى الحساب، كنت أعرف هذا الكلام، فهي تخشى جدك يفز ويسوي جوشة بالليل ويفضحنه بين الجيران.
ـ بابا.. وين ضميت الوردة؟.
قالها من لب النعاس، فأيقنت بلا مفر من إيصال السرد إلى ذروة ما.
ـ جنب المخدة بفراشي.. نمت وحلمت بأمل تعطيني بوسة لمن أسملها الوردة مثل البنية بالفيلم، فزيت قبل ما توعيني أمي، غسلت وجهي، وانتظرت وراء الباب لما طلعت بثوبها الحرير الفضي، انطلقت إليها وصبحتها بالخير ومديت إيدي بالجورية، أخذتها وشمتها وقال: الله، ومن يومها صارت صديقتي وما تلعب إلا معي، صرنا جسمين بروح وحدة.
أطلق زفيراً طويلاً وسقط في غفوته ساكناً مخدراً بامتزاج الأرواح بضفيرة الذروة التي ما بعدها كلام، وتركني وحيداً في وحشة البستان، والطين اللزج الماسك بقدمي، وكفي الراجفة، المحيطة بسويق الجورية المنتفضة بين أصابعي البائدة، وجارنا الناحل يتقدم نحوي بخطوه المفضوح. خلصتُ قدمي من الطين وأنا مخنوق بالرعب وخيال اللحظة القادمة، ذل معانيها الكاملة خلف الثياب، محاصراً بألواح الورد، بالليل، والجدران، بابن الجيران المقبل بصمت، الدامغ وسطه القائم بكفه المرتعش، والمزدرد ريقه الناشف. أتراجع بنسق يحافظ على قدر المسافة الفاصلة بيننا. أتضرع مع نفسي لخالق السماوات والأرض، مردداً أدعية سجادية أحفظها عن ظهر قلب.
من غمرة اللجة، من فيض رعبي وفداحة خيالي، من هول المصيبة القادمة، من دكنتها، من خرسي المذهول، أنقذني توقفه المباغت وهطول ذراعيه الملاحقتين شيئاً ما ينزلق تحت دشداشته، وسقوط كتابه المدرسي الذي تبعثر وتقلب ثم استقر على اللوح المسقي. سكت بدوري وعيناي تبحلقان بسرواله الداخلي العريض، مقطوع التكة يشربك أسفل ساقيه والقدمين. كان ينضح بغزارة حائراً بين لباسه المقطوع، وكتابه الساقط وقضيبه المنتصب. في تلك اللحظة اندفعت بقوة صوب سور البستان، بلغته منتشياً، والتفت. كان الناحل منهمكاً بشد تكة لباسه الأبيض الحائل. عبرت الحائط، وأطلقت ساقي للريح، ولم أسترح إلا عند عتبة دارنا.
في غبشة الفجر التالية، حملت وردتي نصف الذابلة، وكنت أجبن مما كنته في القصة التي سردتها لولدي. أفرزتني بابنا الخشبية لظلال طولها الخائض في رذاذ فضة الفجر، في رذاذ أحلامي. دنوت منها حتى حاذيتها في مجرى نور مصباح الشارع. أسرعت بارتباك وأسقطت جوريتي، معتقداً لحظتها بأنها عارفة بكل ما جرى لي من أجل الحصول عليها، فتخيلتها تحمل وردتي، تشمها، وترمقني بود وامتنان مثلما فعلت بائعة الباقلاء قبل سنوات في زقاق ضيق بمحلة الجديدة.
ولكن.... عندما انفردتُ عن زحمة الأجساد المتلاصقة حول الفرن، حاملاً العشرين رغيفاً، وفي نور الشمس القائمة من غفوتها، وجدتُ وردتي معفرة بالتراب.. مهجورة... حزينة في مجرى النور الميت حيث أسقطتها.