بسم الله الرحمن الرحيم
طلبت من بعض الأطفال أن يرسموا آباءهم بشكل رمزي يعبر عن علاقتهم بهم، فرسم بعضهم عقارب الساعة أو الساعة نفسها رمزًا لأحد الوالدين أو كليهما، ورسم آخرون جدولاً مدرسيًّا، وحينما سألتهم عن تفسير ذلك أجابوا بأن الآباء يمثلون لهم القوانين والقواعد والالتزام بالمواعيد.
وفي إحدى الدورات كنت أناقش مجموعة من الفتيات عن أسباب الفجوة في رأيهن بين الآباء والأبناء، فقلن: إنها القوانين والحدود التي يضعها الآباء، ويفرضون على الأبناء الالتزام بها، مثل: حدود استخدام الهاتف، والمواعيد الثابتة التي لا يمكن أن يتأخر عنها الأبناء خارج البيت، وغسل الأسنان قبل النوم، وفرض مواعيد للنوم والاستيقاظ، وترتيب الحجرة... إلى آخر هذه التنبيهات والتعليمات.
::
[رأي الأبناء:]
وسألت نفسي حينئذ: هل يجوز أن نترك البيت والأسرة دون قوانين ونظام طمعًا في كسب ود الأبناء؟ وإذا فعلنا.. فهل سنكسب ودهم فعلاً أم سيكون لسان حالهم الدائم: "هل من مزيد؟".
في محاولة للوصول إلى إجابة، طرحت السؤال على الفتيات عن طريق تخيل الوالدين وهما ينفذان لهن كل ما يرغبن فيه، بما في ذلك موعد مفتوح للعودة إلى البيت، ولدهشتي كانت هذه بعض إجاباتهن:
- "ودي تبقى عيشة".. إن متعة الحياة أن يكون هناك من "مناغشة"، ولن يتحملنا أحد إلا آباءنا.
- إذا تركونا نفعل ما نريد بدون انضباط فلن يرضينا هذا أيضًا، وإذا أخطأنا فسنحملهم هم المسئولية.
- إذا نفذ لنا آباءنا كل ما نريد دون ضابط أو رابط ودون قوانين فما الذي سيميزهم عن غيرهم من الذين يحيطون بنا، ولا يهتمون بأمرنا كثيرًا؟.
حاولت بعد المناقشة السابقة أن أجمع أكبر عدد من آراء الأبناء -المراهقين- عن هذه اللوائح والقوانين، والضبط والانضباط بالبيت، فزادت دهشتي، فمعظم ردودهم كانت شبيهة بالإجابات السابقة! وبالطبع.. كانت النتيجة البديهية التي خرجت بها -والتي خرج بها علماء النفس من قبلي، على الرغم من تشككي فيها لفترة طويلة، خاصة مع ملاحظتي المستمرة لتمرد الأبناء بشكل سافر، وأحيانًا وقح، مع آبائهم حينما يطالبونهم بالالتزام بالنظام- هي حاجة الأبناء النفسية لسلطة ضابطة ولقوانين وروتين من شأنها أن تؤدي إلى الاستقرار والأمان اللذين هما أهم ما يميز الحياة الأسرية.
::حب التمرد.. مبدأ!::
ولكن.. يبقى السؤال: لماذا يتمرد الأبناء كل هذا التمرد، ويرفضون الروتين والقوانين على الرغم من حاجتهم إليها؟ بل واعترافهم -أحيانًا- بهذه الحاجة؟ وهل تمردهم هذا نتيجة للأسلوب الذي ينتهجه الآباء في إلقاء هذه التعليمات وتلك القوانين؟ أم لأن الطبيعة البشرية تأبى في كثير من الأحيان إملاء الأوامر عليها؟ أم هي سمة المرحلة التي نحياها في عصرنا الحالي من تملص معظم الناس من المسئولية، ومن أي نوع من أنواع القيود مهما يكن بسيطًا، أو سيؤدي إلى قليل من الانضباط؟.
إن كل الأسباب السابقة مجتمعة، وغيرها، هي التي أدت لإظهار هذا التمرد على الرغم من الحاجة إلى الانضباط.
::للانضباط أسرار::
ويأتي السؤال الأكثر أهمية -من وجهة نظر الآباء على الأقل-: ما الذي يمكن أن يجعل الأبناء يلتزمون بالقواعد والروتين الأسري؟
لاحظت أن معظم الأسر التي تتسم بالانضباط، وتلتزم بالقواعد والقوانين العائلية تتميز بما يلي:
• أن يكون كلا الوالدين قدوة في المحافظة على الروتين العائلي، مع ملاحظة أنه ليس من الضروري أن يكون روتينهما هو نفس روتين الأبناء، وإنما يكون لهما روتين خاص بهما لاحترام فكرة الانضباط في حد ذاتها، فإذا كان موعد نوم الأبناء في الثامنة مثلاً فمن الممكن ألا ينطبق هذا على الوالدين، باعتبار أن الأم قد ترغب في التقاط أنفاسها بعد نوم الأبناء، وربما يكون لدى الوالد بعض الأعمال التي لم تنتهِ بعد، لكن لا بد أن يتسم النظام في البيت بالنوم مبكرًا بشكل عام.
• ألا تكون مسألة الانضباط والالتزام بقوانين البيت مطروحة للنقاش أو الفصل بينها.
• وجود روتين أسري لا يعني تطبيقه بشكل قاس وصارم، إنما بحزم يشعر الأبناء بالاحتواء والحب والدفء والحرص على مصلحتهم دون خطب أو مواعظ كثيرة تنفرهم من كل ما يدعو للروتين. فليس على الأم مثلاً أن تقول لأبنائها بصرامة ونبرة حادة: "حان موعد النوم"، وحينما يحاول الأبناء التملص من هذا الأمر تواجههم بعاصفة من الصراخ أو العصبية، وفي الوقت نفسه ليس عليها أن تستعطفهم لتنفيذ ما طلبت منهم، فهذا أيضًا غير مقبول، والأفضل من هذا وذاك أن تقول بشكل حازم والابتسامة على وجهها وباقتضاب: "معاد النوم"، فإذا حاول الأبناء التملص فعليها أن تقول بصوت هادئ: إن النوم مبكرًا يجعلنا أصحاء، وتحاول ترغيبهم في اتباعها: كما أنكم لن تعرفوا ما حدث للأسد اليوم في قصة... التي سأقرؤها عليكم قبل النوم، وهكذا تجمع بين الحزم واللين في آن واحد.
•احترام آدمية وعقلية الطفل، فلا يُلقى عليه الأمر دون مبرر أو سبب: لا يعني ذلك أنه على الوالدين إقناع أبنائهما بالقواعد والقوانين التي يفرضانها؛ بل ليعرف الأبناء أن هذه القوانين ليست تعسفية أو صادرة عن هوى في نفس والديهم، فحينما يطلب الآباء من الأبناء غسل اليدين قبل الأكل مثلاً؛ لأن هذه العادة تمنع الأمراض وتحافظ على الصحة، فسواء اقتنع الابن أو لم يقتنع بهذا الكلام فإنه مطالب بغسل يديه.
• لا تخضع قوانين وروتين الأسرة للحالة المزاجية للوالدين، فلا يجوز أن يتم التغاضي عن التزام الأبناء بالنظام حينما يكونان (أحدهما أو كلاهما) في حالة مزاجية طيبة، أو يتشددان في تنفيذ الأوامر مع أبنائهما إذا كانا في حالة سيئة!.
•إمكانية كسر بعض هذا الروتين في الإجازات الأسبوعية، فيسمح مثلاً بالتأخر نسبيًّا في الاستيقاظ -"نسبيًّا"- فكثير من الأطفال، خاصة في الإجازة الصيفية ينهضون من النوم منتصف النهار أو آخره بحجة أنه ليس لديهم أي مهام تدعوهم للاستيقاظ مبكرًا، أو كأن يسمح بعدم ترتيب السرير بعد الاستيقاظ.
::همسة للآباء::
أعلم تمامًا ما يدور في خلد كل أب وأم ممن لديهم أبناء في سن المراهقة عما يجب فعله معهم، فهم يأبون كل الإباء، لا الالتزام بالروتين فحسب، بل حتى مجرد الاستماع لما يقوله والديهم، بل إن كثيرًا منهم يعيشون في بيوتهم وكأنهم يعيشون بأحد الفنادق الخمس نجوم، أي يريدون أن تكون الخدمة ممتازة دون بذل الجهد، ولهؤلاء الآباء همسة: إننا جزء مما وصل إليه أبناؤنا المراهقون؛ لأننا لم نتمكن من تطبيق النقاط السابقة وغيرها، أو لأننا أخفقنا في جزء منها، ولا يعني هذا أنني لا أحمل مؤسسات المجتمع الأخرى -المعنية بتربية الأبناء بشكل مباشر أو غير مباشر- مسئولية ما آل إليه أبناؤنا خاصة وسائل الإعلام، لكن.. سيظل البيت هو المؤسسة الأولى التي تتحمل عبء تربية وترسيخ القيم والمبادئ، وليس أمامها إلا أن تجاهد في سبيل تحقيق غايتها السامية.
منقول